"إلحقوا البلد بتخرب" "مصر انتهت خلاص" "حتعملوا إيه فى البلد أكتر من كده" كلها عبارات تراجيدية تسمعها الآن على مختلف القنوات الإذاعية والتلفزيونية بسبب وبدون سبب. فمصر التى انتكست بهزيمة 5 يونيو، ومصر التى ارتدت عن الديمقراطية ورفعت شعار المعتقلات للجميع، ومصر التى حجزت مقعدها فى مؤخرة الأمم حقوقياً وسياسياً واقتصادياً وتعليمياً على يد مبارك وأعوانه، لم تشهد مندبة جماعية كتلك التى تحفل بها وسائل الإعلام هذه الأيام. مزيج من التشاؤم والإيحاء بالخراب لنقل عدوى الإحباط وتضخيم البلايا فى عيون الناس، تلقاها كل صباح مغلفة بتعليقات المجهولين، وبعض كتابات المعلومين، الذين يحذرون يومياً من احتمال ضياع الثورة وخراب البلاد! إذا استبعدنا سوء النية الذى غالباً ما تنطوى عليه هذه الدعاوى، فإن حسن نوايا هؤلاء لا يقل ضرراً ولا يقيل عثرةً. فالأزمة التى نعيشها الآن هى فى أسوأ توصيف لها، لا تعدو أن تكون مرحّلة تحوّل ديمقراطى لشعب عاش ستين عاماً رهين المحبسين، محبس القهر، ومحبس التغييب والتجهيل. خرج الشعب عن صمته أخيراً فتعالت الأصوات وكثر اللغط، لكن سيل المعلومات الدافق بقدر ما يثرى الضمير الوطنى، ويسهم فى خروج جموع الشعب من غيابات الجهالة إلى النور، فإنه يشوّش على البعض ويربك حساباتهم. تحضرنى مشاهد من الفيلم الأمريكى الرائع "وداعاً شاوشنج" الذى صوّر ببراعة حال شيخ هرم، عاش خلف جدران السجن أكثر مما عاش خارجه، وعرف عن مجتمع السجن أكثر مما عرف عن تفاصيل حياة الحرية خارجه، فما كان منه بعد أن أفرج عنه إلا أن انتحر مؤثراً الموت على الحرية التى أخرجته من سجن تعلو فيه مكانته، إلى مجتمع حر يعيش فيه نكرة ووحيداً.. ما أشبه حالنا اليوم بهذا الشيخ، وما أشبه مصر مبارك بالسجن الكبير الذى انتظمت فيه حياة الملايين، وتعارف المساجين على قواعده وأركانه. وما أشبه الثورة بطاقة تفتح فى جدار السجن لتطل بنا على الحرية كما عرفتها المجتمعات المتقدّمة، وكما قدّستها البشرية على مر العصور. إن التلميح أو التلويح بنفاذ الصبر والانقلاب على مبادئ الثورة لن ينفع أياً من الأطراف اللاعبة على الساحة السياسية المصرية، كما أن التهديد بسحب الشرعية عن طرف ومنحها طرفاً آخر بغير توافق مجتمعى لن يجنى غير الخسائر وإطالة أمد السجن الذى مللناه جميعاً. السر يكمن إذن فى القدرة على الاختلاف بغير اقتتال، والقدرة على الحوار بغير شجار. السر يكمن فى نصيب كل واحد منا فى جهاد النفس، الذى عظّم صفوة المرسلين من شأنه. سمعت حواراُ احتدم فيه الجدل حول ما إذا كان الجيش وكيلاً للشعب فى تحقيق أهداف ثورته أم شريكاً له فيها!. كان أبطال الحوار فريق من المفكرين والإعلاميين فى جهة، واللواء الروينى فى الجهة الأخرى يزود بعنف عن مفهوم الشراكة، مقللاً من قدر ومعنى الوكالة فى هذا السياق!. وعلى الرغم من قوة الحجة التى تُعلى من شأن وقدر مفهوم الوكالة عن الشعب، فلن تجد أيها القارئ الكريم فى مقالى هذا ترجيحاً لأى من وجهتى النظر، لكن ما أخشاه أن يتحوّل مفهوم الشراكة فى ثورة يناير 2011 إلى صيغة مقاربة لمفهوم الانقلاب العسكرى محمولاً على الوجه المقابل لما شهدته ثورة يوليو 1952. فالأولى كانت انقلاباً تحوّل عُرفاً إلى ثورة بتأييد الشعب، والثانية نشأت ثورة تتحوّل الآن إلى انقلاب بشراكة الطرف الأقوى عدة وعتاداً للطرف الأقل قدرة على حسم المعركة. لمست ذلك فى تكرار اللواء الروينى لفكرة أن هناك أسراراً يخفيها، وأنه ليس كل ما يُعرف يقال على حد تعبيره، وأن الناس فى ميدان التحرير كانوا يستحلفونه قبل خطاب التخلّى أن ينهى معاناتهم! فى إشارة واضحة إلى أن الجيش قد لعب الدور الأعظم فى حسم هذه الثورة. ولا يختلف عاقل فى أن القوات المسلّحة المصرية قد سمت بشموخها المعهود فوق شطحات الديكتاتور الحاكم، واضطلعت بمسئوليتها الوطنية فى الوقوف إلى جوار الشرعية، منتظرة نحو 18 يوماً لتقييم الوضع فى الشارع، ومراقبة الجانب الذى سوف تؤول إليه الشرعية ومن ثم نصرته وحمايته. ولسنا هنا فى معرض التقييم لطول أو قصر فترة حسم قيادة الجيش لمآل الشرعية. كما أننا لم ولن نتهّم قواتنا المسلّحة باتخاذ موقف سلبى من معارك دنيئة مثل معركة الجمل وقنص المتظاهرين. إلا إننا لن نبالغ فنقول أن الجيش كان مناصراً للثورة من يومها الأول، ولا نقول أن الثورة لم تكن ليقدّر لها النجاح لولا نصر الجيش للشعب. فانحياز قيادة الجيش للشرعية وفّر على مصر معارك دموية كان يمكن أن تطول أشهراً قبل أن يكتب للثورة النجاح الحتمى. كما وفّر هذا الانحياز للشرعية على القوات المسلحة تمرّداً محتملاً، بدا مخيفاً فى عبارات المقدّم "شومان" ورفاقه، يوم انضموا إلى ثوّار التحرير بصفتهم مواطنين، لا ضباط جيش. الفضل فى نجاح الثورات، أو قل فى تمامها، يرجع للشعب من بعد الله عز وجل. فليس منطقياً أو عادلاً القول مثلاً بأن ثورة 1919 كانت لتجهض فى يومها الأول لولا صبر وثبات جيش الاحتلال الانجليزى، الذى كان يمكنه أن يُعمل سلاحه الظافر فى الحرب العظمى لإبادة شعب مصر الأعزل!. ولا يعود الفضل كذلك لجيش بريطانيا العظمى فى إنجاح ثورة غاندى السلمية لتحرير بلاده من الاحتلال البغيض، لأنهم حينما رأوه يخلع ملابسه هو ورفاقه لم يوسعوهم ضرباً وتقتيلاً حتى يتم إرهاب الشعب وإزهاق ثورته!. كل لبيب يفهم أنه مهما أوتى من يد باطشة فلن يفرط فى استعمالها ضد جماهير يريد أن يحكمها، لا كرماً منه، ولكن تقديراً لعناصر أخرى تدخل فى معادلة القوى، فترجّح دائماً كفة الشعب ولو طال عليه الأمد. ويكفى أنك أيها الجبار الباطش حتى وإن رجحت كفتك طويلاً فأفنيت شعباً أو أوشكت، فلن تجد من تحكمه بعدها، ولن تمكث بعد صنيعك هذا إلا قليلاً.