لا أستطيع إكمال قراءة ما ينشره الإعلام المصري من أخبار وتقارير عن ثروات الفاسدين في نظام مبارك، لأنني لا أتحمل مزيدا من التوتر والغضب عن هذا الذي فعله مبارك وبطانته بمصر والمصريين، وهناك شيء من اثنين: إما أن هناك مبالغة في رصد هذه الثروات لضخامتها وفحشها، أو أنها حقيقة مؤكدة، وبالتالي نحتاج بالفعل إلى محاكمات سريعة لكن عادلة تفصل في أمر الفساد المالي، وتشفي غليلنا بأحكام قاطعة تقول: هل هؤلاء الناس جمعوا تلك الثروات الخرافية بالفساد واستغلال وظائفهم ونفوذهم وعلاقاتهم العنكبوتية، أم أنها - كما يزعمون - جاءت من مصادر شرعية نظيفة وبالعرق والجهد؟. الاحتمال الثاني الذي افترضه وهو أنهم تعبوا وكدحوا حتى يحققوا تلك الثروات أحاول أن أهدئ به نفسي، أو أن أمارس الاستعباط مع نفسي، لأنني مذهول من أن مستنقع الفساد كان قد بلغ هذا الحد الفاحش اللعين في عهد الرئيس السابق الذي كان يدعي أن الكفن ليس له جيوب، وأنه لا يتستر على فساد، ويعمل لأجل الفقراء ومحدودي الدخل. مسألة أن يستطيع رجال مبارك تكوين هذه الثروات الضخمة من الحلال مشكوك فيها جدا، بل يصعب الاقتناع بها، لأنهم أولا يجب عليهم ألا يمارسوا أي أعمال تجارية وهم في مناصبهم الرفيعة منعا لشبهة استغلال النفوذ، ولأنهم ثانيا لو كانوا يحصلون على أعلى المرتبات في الدولة وكانوا يستقطعون جزءا منها للزمن فيستحيل أن يكون لدى أي منهم واحد على مئة من ثروته الحالية، وثالثا لو أنهم ورثوا عن عائلاتهم أموالا وأراضي وعقارات فمهما كان حجم الميراث ولو تم استثماره فلن يصل إلى هذا المستوى من الثراء. والحقيقة أنهم جميعا لا ينتمون لعائلات ثرية حتى يرثوا، بل خرجوا من مستويات اجتماعية عادية، وكبيرهم نفسه مبارك لم يكن يملك غير راتبه من الجيش وزوجته سوزان كانت تعمل في روضة أطفال ب 11 جنيها شهريا لتحسين مستوى معيشتهم ، وهذا ليس عيبا، إنما العيب فيما فعلوه بعد ذلك من فساد. وأحدث تقرير قرأت سطورا منه كان عن جمال عبد العزيز سكرتير مبارك حيث يتضمن ثروات وشركات وعقارات خرافية رغم أنه لم يكن شيئا مذكورا، وكان طالبا متواضع المستوى في الثانوية العامة، فمن أين له كل هذا الثراء الذي يتفوق به على بعض شيوخ الخليج، وهل زملاؤه في الثانوية أو في الكلية التي درس فيها جمعوا نفس الثروة أو نصفها أو ربعها أو واحدا على عشرة منها؟. أريد أن أدخل في عقل واحد من هؤلاء لأعرف، ألم يكن يفكر في الحلال والحرام في كل جنيه يضيفه إلى ثروته، و لماذا كانوا شرهين إلى هذا الحد في جمع المال، ومن كل الطرق، وبكل الوسائل، وهل يظن كل واحد منهم أنه سيخلد في الدنيا حتى يؤمّن نفسه، وهل فكرة الموت لم تكن تراودهم بأنهم يوما ما قريبا أو بعيدا سيرحلون عن الدنيا ويتركون أموالهم وراءهم، وهل الإنسان بطبعه عاشق للمال، بمعنى أنه كلما امتلأت جيوبه فإنه يقول: هل من مزيد؟، وكلما زاد المال زاد من عشقه له، هل هذه حالة فطرية تولد مع الإنسان، أم هي حالة اجتماعية، أم نفسية، وهل من يفسد يصعب أن يخرج من تلك الدائرة الشيطانية ؟. المدهش مما نقرأه أن أسر هؤلاء من النوع المحدود في العدد، بعضهم لم ينجب، وبعضهم لديه ابن واحد أو ابنة واحدة ، وآخرون لا يزيد أولادهم على اثنين أو ثلاثة على الأكثر، أي أنهم لا يحملون هموم أسر كبيرة ، تحتاج إلى إنفاق وتأمين مستقبل الأولاد والبنات حتى يكدسوا الملايين والمليارات، ثم إنهم يعينون أولادهم في أرقى الوظائف، أي سيحصلون منها على مرتبات تجعلهم يعيشون حياة كريمة ومحترمة، فلمن ولأجل ماذا يبيعون ضمائرهم في سوق الفساد النتن؟. نحن كنا محكومين بعصابة الأربعين حرامي وليس بنظام سياسي رجاله يحترمون أنفسهم ويحترمون الدستور والقانون والقسَم والأخلاق والضمير في الشعب الذي يحكمونه، وهو شعب فقير فقرا مدقعا. الصدمة الكبرى في علي بابا زعيم أكبر عصابة في تاريخ مصر الحديث الذي ترك البلد نهبا لعصابته وجاء نجلاه مع أتباعهما لينالوا حظهم من النهب، فماذا كان سيبقى من مصر حتى يقاتل الولد ليرث كرسي والده؟ الرجل المفترض أنه القدوة والرمز الذي يحمل تلك الأمانة العظيمة والذي يتحدث عن الشرف العسكري والبطولات والتاريخ يتحول إلى رمز للفساد، ويخرج من السلطة مطرودا، وتتكشف أوراقه بعد رحيله فيستدير عنه المصريون حتى الذين كانوا متعاطفين معه. مبارك كان دائم الحديث عن الفقراء ومحدودي الدخل بينما هو في الحقيقة يطحن هؤلاء ويخرجهم من الحياة إلى الدار الآخرة بسبب الجوع والمرض والبطالة والفساد والرشوة واليأس. التحليل النفسي للمخابرات الأمريكية عن شخصية مبارك يقول إنه كان يعشق الكذب، والواقع خلال سنوات طويلة من حكمه يؤكد أنه كان كذوبا، وأكبر كذبة هى ادعائه بتبنيه لمحدودي الدخل، وحديثه عن طهارة الحكم، والكفن الخالي من الجيوب، والزهد في السلطة، ومحاربة الفساد، والى آخر تلك القائمة الطويلة من الأكاذيب الفاضحة لرئيس لم يقدر قيمة البلد ولا الشعب الذي يحكمه، حيث أثبت أنه لم يكن جديرا بهذه المهمة العظيمة. حاسبوه وحاسبوا كل من أفسد في عهده دون رأفة أو رحمة، واستردّوا منهم كل قرش سرقوه من الشعب المسكين.