ترتبط فكرة نشأة الرقابة بتدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى، إذ كلما زاد حجم هذا التدخل، كلما زادت درجه الرقابة على الإدارة القائمة على النشاط الاقتصادى ،والعكس صحيح. بيد أن نشأة الرقابة المالية أو المساءلة المالية، تعد أداة تاريخية سابقة على تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى، إذ كانت الوظيفة المالية للبرلمان، سابقة على الوظيفة التشريعية. وكنت آمل فى لجنة الخمسين أن تعى هذه الحقيقة، لدى وضعها للوثيقة الدستورية الجديدة بعد تعديل دستور 2012 المعطل، ولكن لا تأتى الرياح بما تشتهى السفن فقد جاءت المادة 101 من دستور 2013 لتبقى الوضع على ماهو عليه بأن "يتولى مجلس النواب سلطة التشريع... ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ..." ولكن عزائى فى هذا الأمر، أن هذه الحقيقة كانت حاضرة فى ذهن معالى المشير عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية، لدى تناوله لمهام البرلمان فى أكثر من خطاب، حيث ذكر أن وظيفة البرلمان القادم ،هى الرقابة والتشريع مقدما الوظيفة الرقابة على الوظيفة التشريعية 0 وبمعنى أكثر وضوحا، أن الوظيفة الأولى، بل والأساسية للبرلمانات، كانت للمساءلة المالية، ولم تكن لإصدار التشريعات (القوانين) فالمسائل المالية تعد العامل الأساسى فى ظهور النظام النيابى، إذ كانت الاختصاص الأول الذى انعقدت البرلمانات لممارسته ، أما المراسيم أو القوانين، فكانت من إطلاقات الملوك والحكام. هذا ويعتبر النظام الانجليزى وهو مهد النظام النيابى البرلمانى فى العالم، وصاحب أقدم تجربة فى هذا الخصوص، خير شاهد على ذلك، إذ بصدور العهد الكبير أو الميثاق الأغظم سنة 1215م، أو ما يطلق عليه الماجناكارتا، أُجبر الملك فى انجلترا على منح المجلس (البرلمان) سلطة الإشراف على فرض الضرائب وجبايتها على المواطنين، بعد أن كان الملك يفرضها بنفسه، وينفقها كيفما شاء، على الدولة أو حاشيته الخاصة، وظل الوضع يتطور فى انجلترا حتى ميثاق الحقوق سنة 1688م والذى أعلنت فيه زوال السلطة الشخصية للملوك ، وزوال الحكم المطلق ، وإخضاع الملك لسلطة البرلمان، ومنذ ذلك التاريخ ظهرت أول موازنة فى انجلترا وأصبح لنواب الشعب، حق تقرير الميزانية والضرائب من واقع كون الشعب هو دافع الضريبة. أما عن المساءلة المالية فى البرلمان المصرى، فقد ظهرت بصورة واضحة عندما اشتدت الأزمة المالية بمصر فى سنة 1868، بسبب انهيار اسعار القطن والحبوب، وعلى إثرها لجأ الخديوى إسماعيل إلى الاقتراض من الخارج، إضافة إلى ما يقترضه من الأعيان بالداخل، وما يفرضه من ضرائب على ملاك الأراضى، حيث سعى مجلس شورى النواب إلى استغلال هذه الأزمة، فى انتقاد سياسة الخديويى ونظامه المالى. وهنا صدر فرمان 26 نوفمبر 1869 من الباب العالى (فى تركيا) مقررا الرقابة المالية على الخديوي، فحرمه من عقد القروض، وفرض الضرائب، دون استئذان الأستانة، وبذلك بدأ النواب فى التعبير عن أفكارهم ونقد الحكومة فيما يتصل بفرض الضرائب، وعقد القروض، ومع سلسلة من التطورات الأخرى فى صورة صراعات حول الأحوال المالية للدولة بين الخديوى ومجلس شورى النواب، انتهى الأمر فى نوفمبر 1876م بإقرار الخديوى إسماعيل بحق مجلس الشورى فى الاشتراك فى إدارة شئون البلاد، وحقه فى مناقشة سياسة مالية الدولة، ثم توالت الأحداث حتى صدور دستور 1923 وما بعده. ومما تقدم يتضح أن الأصل فى الرقابة هى الرقابة المالية، فهى العامل الأساسى فى ظهور النظام البرلمانى، وهى الاختصاص الأول الذى انعقدت البرلمانات لممارسته. وبعد هذا السرد التاريخى للوظيفة الأولى التى انعقدت البرلمانات لممارستها نجد التساؤل الآتى يطرح نفسه: لماذا الرقابة قبل التشريع؟ أو بمعنى آخر، لماذا يجب أن تكون الوظيفة الأولى للبرلمان هى الرقابة؟ وكيف تأتى الوظيفة التشريعية من ثنايا الوظيفة الرقابية؟ وتتلخص الإجابة على هذا التساؤل من وجهة نظرى، فى أن الاقتصاد هو صانع السياسات فى الدول الحديثة، وأن الفقر هو أبو الجريمة غالبا فى الدول المتخلفة، وعلاج الأمر يكمن فى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، والتوزيع العادل لنواتج النشاط الاقتصادى، وهنا يكون اهتمام البرلمان بالمسائل المالية، مثل فرض الضرائب وتحسين الأجور، وتشجيع الاستثمار(فى التعليم – فى الصناعة- فى الزراعة- فى البحث العلمى ... إلخ) يقتضى الوقوف أولا لتقييم ومراجعة السياسات المنظمة لهذه الأمور، والمراجعة والتقييم، تعنى المساءلة المالية، وتقييم الأداء الحكومى، من خلال الأدوات البرلمانية المتاحة، مثل حق السؤال، وحق البرلمان فى إجراء التحقيق، أو الاستجواب، أو تقصى الحقائق... إلخ، وتلك وظيفة رقابية تنبع منها الوظيفة التشريعية، إذ كلما كشفت الرقابة عن وجه من أوجه القصور فى السياسات، أو فى الأداء الحكومى، اقتضى الأمر إعداد التشريع اللازم للعلاج، أو تلافى ذلك القصور، ليس هذا فقط بل إن نجاح أى تشريع من التشريعات هو فى حسن تطبيقه، أو تنفيذه على أرض الواقع، وهذا ما يقتضى أيضا من البرلمان أن تكون لديه الآلية اللازمة لمراقبة تنفيذ ما يصدر من قوانين أو تشريعات (رقابة) أى أن التشريعات تأتى من ثنايا الرقابة على الآداء الحكومى . وضمانا لجودة الأداء الحكومى، والتنفيذ الجيد، لما يصدر من قوانين دون انحراف، لا يقتصر الأمر على أدوات الرقابة البرلمانية المشار إليها آنفا، بل يحتاج الأمر إلى أجهزة رقابة فعالة، وقادرة على المساءلة والمحاسبة. فما هو الدور المنتظر من أجهزة الرقابة فى المرحلة القادمة، كى تساند برلمان الثورة فى تحمل عبء مصر المقبل (ذلك هو موضوع المقال القادم بإذن الله) 0 وكيل وزارة بالجهاز المركزى للمحاسبات والمحاضر بالجامعات المصرية