أعادت الحرب الصهيونية على غزة تركيب المشهد العربي، وذلك بأن وضعت الدولة الصهيونية في مكانها الحقيقي بعد أن غابت شكلياً ووقتياً عن دموية هذا المشهد وكوارثه. لقد كان غريباً ومريباً تكرار اللازمة أو العبارة الروتينية التي طالما وردت على لسان أطراف صراع الربيع العربي في ذروته واشتداد عنفه وهي موجهة ضد الخصم ولكن معني بها العقل العربي، والعبارة هي في مضمونها أن "إسرائيل" هي أرحم في اعتداءاتها وعنفها مما يجري بين المتخاصمين . لقد تكررت العبارة/ القسم عبر البلدان التي مر بها الربيع الدموي . وكانت في الحقيقة إيحاء بأن تنحية "إسرائيل" عن المشهد هو شرط للربيع العربي وإيذان كذلك بالدخول في عصر التناحر الدموي العربي العربي . لطالما سمعنا الصيحات عبر الفضائيات العربية بأن "إسرائيل" تصبح "رحيمة" بالمقارنة بسكاكين فرقاء وأطراف الصراع الداخلي العربي . أما الآن وبعد غزة فهل تذكرنا كلنا أن "إسرائيل" موجودة ضمن خارطتنا، هذا أولاً، أما ثانياً، فإنها هي التي تتربع على عرش القسوة المطلقة والوشحية في قتل الشعوب وإبادتها . رسالة غزة هي أن "إسرائيل" تذكرنا بنفسها إن كنا نسينا أنها أم الأصولية الدينية ومصدرها ومن يصدرها في الساحة العربية، وأن وجودها لا يمكن إلا أن يكون نقمة وسوط عذاب على المجتمعات العربية المحيطة بفلسطين وهي مجتمعات في العرق "الإسرائيلي" تمتد من المحيط إلى الخليج، "إسرائيل" هي حاملة الإرث الإمبريالي الغربي ووكيلته ومن يكفل بقاءه الحي واستمرار تكبيل واقعنا به . بقدر أصولية "إسرائيل" الدينية المدججة بأفتك أنواع العتاد وأسلحة التدمير هو الغرب أيضاً الذي يتواطأ منطقياً وسياسياً مع أفعال القتل الصهيونية ويبررها ويعكس إعلامه ذلك . رسالة غزة وصلت، و"إسرائيل" هي الحقيقة والقانون والقوة، وما شعوبنا التي تقتل إلا كتل بشرية يحق لها أن تفعل بها ذلك كي تصبح قابلة للتغيير والإزاحة المكانية والاستسلام التام حتى العبودية . "إسرائيل" هي أكثر من أن تكون "نازية"، من منا يجرؤ أن يجعل هذه الرسالة الجديدة لغزة لغة سارية في الإعلام العربي؟ أعظم فلاسفة إيطاليا المعاصرين، غياني فاتيمو هو الذي وصف "إسرائيل" بأنها أكثر نازية من النازيين أنفسهم ولم يتردد في التعبير عن أمنيته في إطلاق النار على الصهاينة لو كان يستطيع . وتلك رسالة غزة المنتصرة إعلامياً وتاريخياً رغم كل محاولات الميديا الغربية في غسل الأدمغة . غزة في تعبير هذا الفيلسوف هي في مكانة إشبيلية وغرناطة في زمن فرانكو الفاشي، حيث يجب أن تتداعى النخبة الغربية الحرة للقيام بالفعل نفسه كما حدث في الثلاثينات من القرن الماضي . هل هذا الأثر لانتصار غزة على قوة الدولة الصهيونية هو ما دعا كيري وبان كي مون وغيرهما كي يهرعوا لترتيب وقف لإطلاق النار بأي ثمن؟ دم غزة بلا شك ينتصر على قوة البطش الصهيوني التي تبدو على حقيقتها عارية إلا من فظاعة القسوة وتعمد قتل الأطفال (طفل كل دقيقة) . هي تمتلك هذه الرخصة الدولية والغربية لا لشيء إلا لأن هؤلاء الأطفال هم غزاويون فلسطينيون . الحرب العنصرية المعلنة تعزز نقيضها الحتمي والأكيد وهو الوقوف إلى جانب غزة من قطاع واسع في الرأي العام العربي المثقف الذي أصبح يعادي "إسرائيل" ويتوجه ضد كل ما يمثلها من خلال أفعال التظاهرات والاحتجاجات والهجوم الرمزي على المعابد والمصالح اليهودية في المدن الغربية . وإن كان هذا هو واقع وعي الإنسانية الحرة إزاء بربرية أفعال الدولة الصهيونية في غزة، فإن عودة الأخيرة بزخم حقيقتها إلى المشهد العربي لن يمر بالتأكيد مروراً عادياً على عقول وإرادات رأت دولة البطش والقدرات التسلحية الهائلة عاجزة عن تحقيق الانتصار الذي تسعى إليه على غزة في منازلة الأسبوعين ونيف التي سجلت فيها المقاومة انتصارات عديدة وكشفت محدودية ما يمكن أن تفعله "إسرائيل"، فيما عدا القتل الجماعي للمدنيين . رسالة غزة وصلت وهي رسالة مستقبلية ولمرحلة زمنية قادمة لا تضيف فيها الدولة الصهيونية شيئاً إلى قوتها وإنما تتضاءل هذه القوة بقدر تراكم قوة المقاومة ضدها . نقلا عن صحيفة الخليج