بعد ثورتين مجيدتين 25/30 وبعد طول غياب من اللا استقرار شهدته مصر، تأتى ضربة البداية لعهد جديد يتسم بالحركة والنشاط والحيوية والحماس جعل الناس فى كل مكان ينتظرون الجديد والقادم، حيث تشهد مصر الكثير من التحديات المحلية والاقليمية والعالمية، تحديات تحتم علينا أن نكون مؤهلين سياسيا واقتصاديا وثقافيا حتي نقول كلمتنا، ونسمع صوتنا للعالم فهذا هو واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه البشرية اليوم أكثر من أي وقت مضي، هى مرحلة تتصارع فيها الثقافات والحضارات لاثبات هويتها والحفاظ علي خصوصيتها في ذلك المنعطف التاريخي الحرج الذي يموج بأفكار جديدة علينا فى الاقتصاد والتعليم والثقافة، ولن يجد هذا الجيل خيرا من روح أو ثقافة هذه الأيام دليلا ومرشدا، فهي في رأيي معين حضاري لا ينضب يساعدنا لو تأسينا بروحها، علي أن نأخذ مكانتنا التي نستحقها بين شعوب العالم وألا ننظر اليها فقط كمناسبة تاريخية أو كما يقول المؤرخون تركة تاريخية سيكتبها التاريخ بحروف من نور، فالمقولة المشهورة تؤكد ان البشر صانعو التاريخ وقد كنا من قبل صانعيه فهل نستطيع ان نستفيد بهذه الروح ونحولها الي منظومة متكاملة لممارسة الفكر والتدبر في حالنا العلمي مما سيكون له أكبر الأثر في إثراء حاضرنا ومستقبلنا. يتصور الكثير ان دور مصر الرائد يقف عند التاريخ الفرعوني فحسب، ويتوه عنهم أنها بحكم تكوينها الجغرافي الذي جعلها قلب العالم ففرض عليها أن تقوم بدور الريادة علي مر العصور فهي مصنع الحضارة وستظل كذلك، فحينما ظهرت في مرحلة متنامية وراقية في زمن قديم انبهرت بها الشعوب المجاورة وامتدت عناصرها الي بابل وآشور وتشبعت بمؤثراتها حضارة كريت واليونان، وفى العصر العربي الاسلامي كانت مصر الاسلامية خلية حضارية مضطرمة في قلب العالم الاسلامي، فارتبطت بجميع أجزائه وبعالمها الخارجي مما زاد في عملية الاخصاب الحضاري ولم تتحول مصر نافورة الحضارة (جمال حمدان) الي مجرد بالوعة للحضارة الحديثة ولكن لشموخها ورفعة شأنها أصبحت البوتقة الثمينة التي صهرتها وكانت هى المعمل الحضاري الذي تجرى فيه العمليات الحضارية المختلفة. واليوم وفي هذا العالم المتلاطم الموجات يوصف العلم بأنه معرفة بدون ذاكرة مما سيؤدي الي تشويه مستمر لملامح الحضارة المعاصرة، ومن أجل أن نخطو نحو جعل العلم معرفة بذاكرة واعية فان الدور الذي يمكن ان يلعبه تاريخ العلوم والتكنولوجيا علي مستوي العالم عموما وفي مصر علي وجه الخصوص سيساعد علي خلق ثقافة علمية أصيلة وبالتالي يمكن هذا من رد الاعتبار للعلم في مصر. واليوم تشهد الساحة الثقافية في مصر مدعومة برعاية ومتابعة مباشرة ومستمرة من القيادة السياسية الجديدة الواعية بحركة التاريخ نشاطا متزايدا جوهره الاهتمام بالتراث سواء تراث الحضارة المصرية القديمة أو الحضارة الاسلامية، وخير دليل على ذلك انشاء وزارة جديدة باسم «وزارة الاثار والتراث» فى توجه جديد من أجل دعم الاهتمام بالتراث مع اثار مصر العظيمة، وهكذا فاننا نجد لزاما علينا ان ننتهز هذه الفرصة السانحة ونلفت فيها الانتباه لتاريخ العلوم والتكنولوجيا والدور الذي يمكن أن يلعبه في تخطي مصر عقبات القرن الحادي والعشرين بثقة وتؤدة. ونبادر بالسؤال عن المكانة التي يمكن ان يحتلها تاريخ العلم والتكنولوجيا في المجتمع المصري خاصة والمجتمع العربي عامة؟ وهل الاهتمام بتاريخ العلوم هو رد اعتبار للعلم؟ أو انه تسلية في برج عاجي؟ ولماذا ننادي اليوم بأهمية وجود وانتشار للفهم العميق للماضي العلمي؟ ان مقتضيات الاجابة علي هذه الأسئلة، وهي مستويات عدة، تتطلب معرفة كاملة للمستوي الفعال للعلم، كذلك فالعلماء لايضعون أعمالهم العلمية في سياق اجتماعي للافتقاد الي المنظور التاريخي لهذه الأعمال، كما ان اختفاء الروابط مع الماضي الحي وهو أمر ليس مقصورا علي المجتمع العلمي فحسب بل هو عام، ولكنه يؤدي في نهاية المطاف الي تشويه مستمر لملامح الحضارة المعاصرة، إن دراسة تاريخ العلم يفيد في الوقوف على العوامل الموضوعية التي هيأت كل هذا النتاج والإبداع العلميين واللذين تحققا على مر العصور وعلى الأسباب التي أدت إلى اضمحلال هذا الإبداع من جهة أخرى فى مناطق بعينها، كل ذلك من أجل تهيئة تلك العوامل مرة أخرى والعمل على استعادة التمسك بزمام البحث العلمي من جديد، وبالتالي مواجهة الضعف والوهن العلمي الذي تعيشه الأمة اليوم. وفي مجتمعاتنا نجد ان السيطرة الاجتماعية علي الابتكارات والمتغيرات التكنولوجية تعتمد بدرجة كبيرة علي تنمية ثقافة علمية يلعب فيها الفهم الواعي بعمليات الابتكار في الماضي دورا حاسما. ومثلما كان من الضروري لتنجح التجربة الديمقراطية السياسية التي تعيشها مصر اليوم أن يوجد حد أدني من المعرفة فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي والسياسي وذلك من أجل ممارسة صحيحة لحق المشاركة بجدية فى الحياة السياسية فإن نفس الأمر يمكن ان ينطبق أيضا في أن يكون للمواطن ما يكفي من الأفكار المفصلة والدقيقة عن عمليات التاريخ. والآن نأتى للسؤال الهام ما هو نوع المبادرات التي يمكن أن نقترحها ليأخذ الاهتمام بتاريخ العلم والتكنولوجيا الرعاية الكاملة.. يبدو في أول الأمر ان تقوية الأساس المعرفي للبحث العلمي عن طريق اعطاء دفعة اضافية الي عمليات التحول في اتجاه التوفيق والتصالح مع التاريخ والمناهج التاريخية هو أمر جدير بالاهتمام، كما ان تنمية دراسات تاريخ المؤسسات العلمية والبحثية وهياكلها في مصر( تاريخ الجامعة المصرية تاريخ الأكاديمية تاريخ هيئة الطاقة الذرية تاريخ مصلحة الكيمياء، وهكذا) يمكن عن طريقه تقديم ذاكرة حية، وحتي يكون التاريخ مفيدا بالفعل فلابد ان يكون نقديا.. ونأتي لأمر آخر وهو كيف يمكن أن ننقل المعرفة الي أكبر عدد من المستمعين، واذا كان التليفزيون اليوم هو الأداة المثلي لهذا الأمر فما هي التغطية التي يمكن ان يقدمها بالنسبة لتاريخ العلوم، او حتى العلم المعاصر.. فتليفزيون الدولة يملك العديد من القنوات المتخصصة تبث ارسالها من خلال القمر المصري نايل سات ومنها قناتان للتعليم والبحث العلمي يمكن ان تؤديا دورا هاما لو تم التخطيط له بشكل جيد وبفكر واضح في الحصول علي نتائج متميزة تساعد علي تقديم برامج وأفلام متخصصة في تاريخ العلوم والتكنولوجيا. وبعد.. فإن تاريخ العلم هو حجر الأساس للبناء التعليمي وهو حافز علي تنمية الميل الي البحث العلمي والثقافة العلمية والاستزادة من مفاهيم العلم المختلفة ويمكن من خلاله رد الاعتبار للعلم في مصر وتجهيز البيئة العلمية لاقتحام الألفية الثالثة بثقة وأمان. ------ أستاذ بعلوم القاهرة ومدير مركز التراث العلمي