هاشم عبدالعزيز "يجب أن يجري على كل ما نعرفه عن الشرق الأوسط تفكير من جديد"، الدعوة هذه أطلقتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية إثر التداعيات التي شهدها العراق بسقوط مدينة الموصل بيد جماعة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) ، المبرر للدعوة أن كياناً جديداً أخذ ينشأ في الشرق الأوسط ، على حد وصف الصحيفة . ولكن السؤال هنا: ما الذي نعرفه أصلاً عن الشرق الأوسط حتى يجري التفكير حوله من جديد؟ بالطبع الأمر هنا لا يتعلق بالمسائل والقضايا المرتبطة بالجغرافيا والتاريخ وإنما بالمشروعات التي استهدفت هذه المنطقة بأهميتها الحيوية والاستراتيجية التي أثرت على نحو حاسم في مجمل أوضاعها، ويمكن إجمال هذه المشروعات بمعادلة ال"تقاسم" وال"تقسيم" . معلوم أن عملية التقاسم بدأت في العقد الثاني من القرن العشرين وجاءت بطموح وأطماع وحماقات بريطانية وفرنسية أدت إلى تشكيل وضع هذه المنطقة، وقد تجسدت فيما بات يعرف ب "اتفاقية سايكس - بيكو"، التي أبرمت بين البلدين الاستعماريين آنذاك وقامت الاتفاقية على إعادة تقسيم مناطق الحكم العثماني منذ بدايات القرن السادس عشر إلى دول جديدة في هذه المنطقة ومن ثم جرى وضع الكيانات السياسية الوليدة عن هذا التقسيم تحت نطاقين من النفوذ أحدهما تحت سيطرة النفوذ البريطاني وشمل العراق وشرق الأردنوفلسطين والآخر تحت سيطرة النفوذ الفرنسي في سورياولبنان وامتدت السيطرة البريطانية إلى مصر والفرنسيين في المغرب . ومع أن مبادئ تلك الاتفاقية مازالت تؤثر في هذه المنطقة حتى يومنا هذا على نحو متناقض وخدمت البريطانيين والفرنسيين في كثير من سياساتهم، إلا أن تأثيرها في سكان المنطقة كان مختلاً ومختلفاً . وبسبب إبرام الاتفاقية سراً من دون معرفة العرب كان البريطانيون يبررون وعدهم بانه في حال ثار العرب ضد الحكم العثماني سينالون استقلالهم وأدى هذا إلى دورة طويلة من الصراع ضد الاستعمار بما ترتب عليه من تصحر في عملية التحولات والتطورات التاريخية بل وانقطعت في بلدان عدة عملية بناء الأنظمة الدستورية، الأمر الذي قاد إلى الانفجارات الاجتماعية والصراعات السياسية المتداعية في المنطقة العربية . ما هو جدير الإشارة إليه هنا أن اتفاقية "سايكس - بيكو" هدفت إلى تقسيم المشرق العربي على أساس طائفي، إلا أن ما كان يُرمى إليه لم يتحقق وهو ما يشير إليه محللون إلى أن الحدود الجديدة التي جرى تحديدها لم تنسجم مع التمييز الطائفي والقبلي والعرقي على الأرض، والأهم من ذلك أن العرب بوجه عام نحّوا تلك الخلافات جانباً وتمكنوا من قيام دولة متعددة الأديان في لبنان ودولة متعددة الأجناس في العراق وهذه المسألة أدت إلى ما يجري الآن من إعادة إنتاج "سايكس - بيكو" تحت مسميات عديدة . قد يكون مفيداً هنا الإشارة إلى أنه في عهد الرئيس الأمريكي ترومان ساد اعتقاد بأن قيام دولة متعددة الأديان في لبنان ودولة متعددة الأجناس في العراق يشجع على إقامة دولة فيدرالية متعددة الأديان والأجناس في فلسطين، "غير أن ترومان سرعان ما تراجع عن هذا الحماس تحت ضغط اللوبي اليهودي الأمريكي الذي كان يريد كل فلسطين دولة لليهود، ويعود تراجعه إلى حاجته إلى المال اليهودي لتمويل حملته الانتخابية التي خاضها ضد منافسه في عام 1948 توماس ديوي وقد فاز ترومان بالرئاسة واللوبي اليهودي في "إسرائيل" . وفي هذا السياق يمكن القول إن ما يجري في المنطقة بوجه عام يقوم على تدوير عملية "سايكس - بيكو" من تقاسم مناطق حيوية ومواقع استراتيجية إلى تقسيم المجتمع وتمزيقه وتركيعه، وهذا يتم بإعادة إحياء النزاعات الطائفية والمذهبية والقبلية العشائرية وغيرها من الموروثات الإحباطية للنهوض الوطني لبناء الحياة الجديدة والجديرة للإنسان في هذه المنطقة الحيوية والاستراتيجية . هنا المشكلة، ف "إسرائيل" تطالب برؤية جديدة للشرق الأوسط، لا هي تخلت ولا حلفاؤها كفوا عن سياستهم الاستعمارية الصهيونية القديمة التي تتصادم مع الحق والعدل والقيم الإنسانية وهي وحدها قادت إلى هذا الوضع المأساوي والكارثي بالنتيجة . نقلا عن صحيفة الخليج