مر على إنتاج أول فيلم روائي مصري طويل سبعة وثمانون عاماً، وكانت السينما المصرية أكبر صناعة من نوعها في الوطن العربي وأكثرها ازدهاراً وتأثيراً منذ أول فيلم لها، والذي عرض بالإسكندرية عام 1927 باسم قبلة الصحراء من إخراج إبراهيم لاما. هذا ونسجل للسينما المصرية بالمقارنة بالسينما العالمية السبق في مجال العروض السينمائية، إذا علمنا أن أول عرض سينمائي تجاري في العالم عام 1895 في الصالون الهندي بالمقهى الكبير بشارع كابوسين في باريس وبالمقابل كان أول عرض سينمائي في مصر في مقهى زواني بالإسكندرية عام 1886 وكان أول عرض بالقاهرة في نفس العام في سينما سانتي القديمة، ولقد كانت البدايات في السينما المصرية تبشر بالجدية في محاولات رائدة لتناول القصص من الواقع ومن معاناة الجماهير في مصر آنذاك بعيداً عن الابتذال وما عرف فيما بعد بعبارة «الجماهير عايزة كده»، وهذا للأسف ما حدث وتحولت السينما المصرية على أيدي حفنة من تجار الخردة وأثرياء الحرب إلى سلعة تجارية من نوع مرغوب، وتحولت القصص والمواضيع الجادة التي كانت تختار من قبل المخرجين الجادين المؤمنين بقضايا بلادهم إلى نوع آخر من القصص الاستهلاكية الاستعراضية المليئة بالتابلوهات الراقصة المفتعلة والأغاني المحشوة حشواً بلا مناسبة درامية «اللهم إلا تحقيق الرفاهية والتسلية والمتعة الحسية للجمهور المصري آنذاك والذي كان يكابد ويعاني من ويلات الاستعمار ومآسي الحروب والأزمات الاقتصادية وصعوبة الحصول على لقمة العيش – مثلما يحدث الآن في مصر للأسف - ومن هنا رفع تجار الخردة وأثرياء الحرب السيف على سينما الواقع ولم ينج من هذا إلا نفر قليل من المخرجين المخلصين المثقفين الذين أبوا أن ينجرفوا مع التيار المدمر للذوق والأخلاق والقيم المصرية الأصيلة الراسخة عبر آلاف السنين. وكان رائد هؤلاء المخرجين المحترمين المخرج العملاق الذي اختطفه الموت شاباً يتألق عبقرية، وهو الفنان كمال سليم الذي أخرج فيلم «العزيمة» كأول فيلم واقعي في السينما المصرية، والتي كانت تعج بأفلام التفاهات والعري والرقص وغيره التي تخاطب الغرائز خاصة في الفئات المحرومة من العلم أو من هم من البيئات الشعبية الفقيرة وأصحاب المهن الحرفية وغيرهم من جمهور أفلام التسلية والإسفاف وإذا قدر لك أن ترى هذا الفيلم المبهر رغم قدمه فلسوف تشعر بشعور حقيقي بأنك تعيش في حارة حقيقية تجدها في أي حي من الأحياء الشعبية في مصر- ولقد ناضل هذا المخرج الفنان لإخراج هذا العمل في ظل «هوجة» أفلام التسلية والاستعراض بما فيها من مشاهد خليعة وإيحاءات جنسية وغيرها، ولهذا لم يكن غريبا أن يختار المؤرخ الفرنسي المعروف «جورج سادوك» فيلم «العزيمة» كواحد من أحسن الأفلام العالمية التي ضمها كتابه الشهير «قاموس الأفلام» وكان ذلك بعد وفاة كمال سليم بأكثر من عشرين عاماً – ثم يجئ امتدادا لمدرسة كمال سليم الواقعية المخرج كامل التلمساني الذي أخرج فيلم «السوق السوداء» ليعالج فيه مشكلة كانت ومازالت خطيرة – وهي مشكلة الاتجار بقوت الشعب ثم يجئ جيل واعٍ جديد من مخرجي السينما المصرية يؤازرهم منتجون مثقفون محترمون يساعدوهم في صنع أفلام عظيمة أثرت الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي كله، وكان على رأسهم صلاح أبو سيف الذي قدم أفلاما مثل «الأسطى حسن» «والوحش» «وشباب امرأة» و«الفتوة» وكلها أفلام واقعية ورائعة بطلها جميعا هو الإنسان المصري المطحون ضحية استغلال الأقوى، كما تضمنت بعض جوانب النقد الاجتماعي المهم والبناء – ولم يكن الطريق أمام صلاح أبوسيف وصحبه من المخرجين المحترمين أمثال توفيق صالح صاحب «درب المهابيل» و «صراع الأبطال» أو يوسف شاهين صاحب «باب الحديد» وهو من أروع الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية عبر مشوارها الطويل، سهلاً أبداً ثم يأتي عاطف سالم بأفلام منها «أم العروسة» ليعالج مشاكل الزواج وتعداد الأبناء ومشاكلهم في إطار اجتماعي وإنساني رائع، وكذلك كمال الشيخ «في حياة أو موت» ثم أجيال من الأكاديميين خريجي المعهد العالي للسينما، وكان أبرزهم محمد بسيوني في فيلم «ابتسامة واحدة لا تكفي» ويتعرض لمشاكل الفتاة المصرية المعاصرة. وسمير سيف في فيلم «إبليس في المدينة» المأخوذ عن رواية بلزاك.. وأشرف فهمي في فيلمه «ولا يزال التحقيق مستمراً»، والذي عبر فيه عن وجهة نظره في واقع المجتمع المصري في نهاية السبعينات والقائمة طويلة للفنانين المصريين المثقفين الواقعيين أو ما بعد الواقعية الذين يرون أن السينما ليست للتجارة فقط ولا للتسلية أو الإمتاع البصري والغريزي – وإنما مثلها مثل المدرسة والجامعة صرح ومنارة للتنوير للأجيال خاصة الشباب للارتقاء بهم ودفعهم إلى سلوك الطرق الجادة والسوية في حياتهم وليس إلى الانحدار والسفه والتفاهة كما حدث سابقاً في عصر السينما التجارية بمنتجيها من تجار الخردة ومن على شاكلتهم من المخرجين المخربين، والذي أتعفف عن ذكر أسماء هؤلاء وهؤلاء. وهو للأسف ما يحدث الآن من منتج مشابه بل وأكثر قبحاً وضراوة عما كان مستغلاً نفس الظروف المشابهة لما كان قبل.. حيث البلد الآن يحترق تحت نيران الجماعات الإرهابية كما كان يحترق سابقاً تحت نار الاستعمار. وللأسف يحدث هذا في ظل عزوف المنتجين المحترمين والمخرجين المثقفين عن العمل للظروف الصعبة التي لا تسمح، فضلاً عن رفع الدولة يدها تماما عن الدخول في العملية الإنتاجية، ثم يأتي آخر أعمال هذا المنتج فيلم «حلاوة روح» ليجسد لنا الوقاحة والبجاحة في أقصى درجاتها مما دفع رئيس الوزراء لإيقاف عرضه لحين.. ومن عجب أن يظهر هذا المنتج للسينما الهابطة في برنامج شهير لإحدى القنوات الفضائية مدافعاً عن الفيلم النكسة في تاريخ السينما المصرية العريقة، وإذا ما أيدت فنانة محترمة ومثقفة رأيها عبر الهاتف معلنة أسفها الشديد على انحدار السينما المصرية إلى هذا الإسفاف الممجوج، يرد عليها بما يذكرنا بالمثل القائل: «اللى اختشوا ماتوا».. ليت الدولة ترحم الناس وخاصة الطلائع من الشباب من هذا الإسفاف.. وليتها تضع قيوداً وشروطاً لمن يريد أن يدخل السينما كمنتج.. فلا يجوز أبدأ أن يكون منتجو السينما المصرية العريقة والرائدة بهذا المستوى الهابط.. وعذراً للمخرجين والمنتجين المحترمين الذين لم أذكر أسماءهم ولا أعمالهم لضيق المساحة.. لكنهم أعلام ورموز مضيئة في تاريخ السينما المصرية.