فى تلك الأيام أحسست أن صوت حليم الذى عشنا مع حنجرته أفراحنا وانتصاراتنا وإخفاقنا عاد يغرد من جديد على أمل أن مصر سترتدى فستان عرسه فى انتظار نهضتها وعودتها إلى مكانتها التى يجب أن تعود إليها، أخيراً سنستمع إلى صوته الشجى وهو يردد: عدّى النهار.. والمغربية جايّة تتخفّى ورا ضهر الشجر وعشان نتوه فى السكة شالِت من ليالينا القمر وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها جانا نهار مقدرش يدفع مهرها .. ولكن فى تلك المرة وبداخلنا أمل العودة من جديد إلى مسار العمل.. فأغانى حليم الوطنية، عادت فى وجدننا الآن للتعبير عن تطلعات الشعب.. فماذا لو استمعت الآن إلى «ريسنا ملاح ومعدينا.. عامل وفلاح من أهلينا»، و«ضربة كانت من معلم»، و«أحلف بكل صبى وصبية.. بعيونهم الحلوة العربية.. وبجمال وجرح قديم فى جبينه» فى أغنية «المسئولية». كلنا نحلم بالعودة لسماع صوت «حليم» والإحساس بأغانيه الوطنية بعد انتخاب الرئيس المصرى، كما حدث وتغنينا بأغانيه فى ثورة يناير التى شدا بها حليم فى ثورة يوليو.. لقد عاد صوت «حليم» إلينا وربط فى مخيلتنا بين الأغانى التى غناها للزعيم عبدالناصر وصورة السيسى أمامنا, وكلنا يحلم أن تفجر ثورة 30 يونية شلالات الفن فى مصر، كما حدث مع كل الرؤساء السابقين بمن فيهم مبارك لأن هناك إنجازات وطنية لهم مهما اختلفنا معهم ولكن حدث النقيض فى ظل الحكم الإخوانى ورئاسة مرسى المفتقد للكاريزما وما فعله بنا، والذى نقلنا من مجتمع عصري، إلى مجتمع بدائى. عدنا نردد أغنيات حليم العظيمة تتردد بين جنبات الوطن: «المسئولية» و«صورة» و«فدائى» و«بالأحضان» و«أهلاً بالمعارك» و«قلنا هانبنى وادى إحنا بنينا السد العالي»، حباً للوطن وإيمانا بشعبه.. الآن عدنا للأغنيات الوطنية المعبرة عن الأمل الذى نتمناه ونعيش معه على طول الخط الآن، خاصة أغنية «العهد الجديد» تأليف محمود عبدالحى وتلحين عبدالحميد توفيق زكي، وهى بمثابة ترجمة غنائية لشعار «الاتحاد والنظام والعمل» الذى نادى به الرئيس نجيب.. وأغنية «وفاء» و«بدلتى الزرقا» كلمات عبدالفتاح مصطفى وألحان عبدالحميد توفيق، وجميعنا لن ينسى أغنية «ثورتنا المصرية.. أهدافها الحرية، وعدالة اجتماعية، ونزاهة وطنية». ويعتبر من كلمات مأمون الشناوى وألحان رؤوف ذهنى والتى تعد الشعار الحقيقى لثورتي 25 يناير و30 يونية. 37 عاماً على صباح لم يكن مثل كل صباح، استقبلته قبل أن أذهب إلى المدرسة بخبر وفاة حليم.. مثل كل المصريين تعاملت فى البداية مع الخبر على كونه أكذوبة أبريل.. فيوم واحد فقط ويجىء أول الشهر لنتأكد أنه أكذوبة ولكن ما هى إلا ساعات وتأكدنا أنه خبر حقيقى عندما استمر الراديو فى إذاعة أغانيه، يومان وعاد حليم من لندن تلك البلد التى ظلت فى مخيلة الكثيرين من عاشقى حليم مقرونة بالغيوم وبرياح الرحيل. أنتحرت ثلاث فتيات حزنا على فراقه، قد لا يفهم الشباب الآن هذا التصرف ويعتقدون أنه مجرد داعية، ولكن من عاش ذلك الوقت يعرف أننا جميعاً كنا نعيش الحب على ضفاف حنجرته، كنا نتباهى بعدد شرائط الكاسيت التى نملكها لأغانيه.. قد يرى البعض أن حليم لم يكن وسيما، خاصة فى سنوات عمره الأخيرة عندما نهش المرض جسده، ولكن هذا الوجه المتعب والجسد النحيل كان بالنسبة لبنات جيلى وما قبله رمزاً لفتى الأحلام. أما الشباب فكانوا يقلدون تسريحة شعره، وملابسه بمثابة الموضة التى لا يحيد عنها شاب.. أننا جميعا كنا نحب الحب الذى يقدمه لنا حليم بكل عفويته وبساطته. وجاء الربيع فى ذلك العام بدون حفلة جديدة لحليم وأغنية نظل نرددها فى صباح اليوم التالى حتى نحفظها عن ظهر قلب، فى هذا العام لم تبدل أمى أو خالتى أساورهم الذهبية بأساور جديدة ذات نقوش ورسومات تنسب أساميها بأسماء أغنية حليم الجديدة، فلقد اعتادت ورش الذهب تقديم فورمات جديدة للأساور بأسماء أغانيه بعد حفلة الربيع مباشرة. زاد محبى حليم فى تلك الفترة كان حواراته الإذاعية التى أجراها مع عمالقة نجوم الإذاعة، خاصة الاتصالات التليفونية التى أجريت معه أثناء تواجده فى لندن، وبدأت التسجيلات النادرة لأغانى حليم التى لم يخرجها للنور تظهر لجمهوره وكان على رأسها «حبيبتى من تكون»، وبدأ كل من هب ودب فى الكلام عن علاقته وزكرياته عن حليم، كل واحد فيهم يتكلم كأنه ينام تحت سريره، بل أن أحد المدعين وصل إلى حد وصف النقوش على ملائة سرير أدعى أنها لحبيبة مغربية أهدته أياه، وهناك من تكلم عن مجهولة العنوان التى كانت تذهب كل يوم لتضع وردة حمراء على قبره.. كنا جميعا نقرأ أى شيء يكتب عن حليم أياً كان، ولكن كان بداخلنا فلتر يعرف الحقيقية من الأكذوبة.. وكثيراً ما طلبنا من أستاذنا الراحل محمود عوض أن يكتب عن عبدالحليم حافظ, ولكنه كان يتراجع دائماً لأنه يرى أن حياة حليم الشخصية ملك لعبدالحليم فقط! فى كل عام أحلم أن يجىء اليوم الذى تشترى فيه وزارة الثقافة شقة حليم وتحولها إلى متحف يزوره محبوه الذين يأتون إليه فى كل عام ليكتبوا بالأقلام الرصاص رسائلهم على الحوائط المحيطة بباب شقته، وأخشى أن يجىء اليوم الذى يقوم أحد الذين لا يعرفون قيمة تلك الكلمات العفوية بدهان الحوائط بحجة تنظيف المكان، وأخشى أيضاً أن تتعامل الأجيال القادمة من الورثة مع مقتنيات «حليم» على أنها وسيلة للحصول على الفلوس أو ربما يحولوها إلى روبابيكيا يجب التخلص منها. أرجوكم اجمعوا ذكريات حليم أنه ذاكرة جزء مهم من حياة مصر التاريخية والإنسانية.. حليم كان صوت ثورة يوليو وقلبها النابض معه عشنا أفكار ناصر وتطلعاته، معه شربنا معنى العروبة وتنفسنا آمال الوحدة، معه تحمسنا لبناء السد وشاركنا فى بناء الصناعات الثقيلة فى مصر, تغنينا بحلم الأوبرا على كل ترعة، ومعه أيضاً دخلنا حرب 67 وعشنا مرارة الهزيمة وانتظرنا الفجر القادم ليغسل أحزان مصر. وإذا كان جسد «حليم» قد استقبل خبر وفاة «ناصر» بالتمرد وانفجار شلال النزيف، فهو ذلك الجسد الذى ظل مرابضاً فى الإذاعة يقدم أغانى انتصارات أكتوبر.. أرجوكم ضموا كل هذه الذكريات واحتضنوها فى متحف لعبدالحليم.. أريد متحفاً يستقبلك بنشيد «العهد الجديد» النشيد الوطني الأول الذى غناه عام 1952 بعد الثورة بأسابيع، و«إحنا الشعب» عام 1956 كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، وأيضاً أغنية «المسيح» و«عدى النهار» نتاج التعاون بين الشاعر عبدالرحمن الأبنودي ولحنها بليغ حمدي، وأغنية «حكاية شعب» عام 1960 من ألحان الطويل وكلمات الشاعر أحمد شفيق كمال، وكذلك أغنية «ابنك يقولك يا بطل» من كلمات الأبنودي وألحان كمال الطويل، وكذلك أغنية «احلف بسماها» عام 1967 للأبنودي والطويل أيضاً، البندقية أتكلمت «بلدى» محسن الخياط 1968، و«فدائى» محمد حمزة، وأغنية «عاش اللي قال» التي قدمها عام 1973 بعد انتصار أكتوبر وهي من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي، و«النجمة مالت علي القمر» التي قدمها عام 1975 بعد إعادة فتح قناة السويس للملاحة، ولكننا جميعا لا ننسى نشيد «الوطن الأكبر» مع نخبة من مطربى الوطن العربى كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل وألحان محمد عبدالوهاب. أريد متحفا أرى فيه قلادة حليم التى كان يلبسها دوماً حول عنقه مكتوباً فيها «آية الكرسى» التى كان يرى أنها تحميه من العين والحسد، خاصة أنه كان من أشد الناس إيماناً بتأثير الحسد عليه، خاصة أن أحد العرافين فى المغرب قال له: إنه محسود وأن الحسد ينفد إلى جسده ويأثر فيه، وأنه سيرحل صغيراً ولكنه سيظل باقياً ومؤثراً لفترة طويلة.