لم أكن واحدة من بين من يعتقدون أن المشير «عبدالفتاح السيسى» قد تأخر أوتباطأ فى إعلان ترشحه للرئاسة، لأسباب كثيرة بينها، أن اللجنة العليا للانتخابات لم تعلن بعد فتح باب التقدم للترشيح، وتحديد الجدول الزمنى لحملة الانتخابات الرئاسية، وأن «السيسى» منذ تولى موقعه وزيراً للدفاع فى الثانى عشر من أغسطس عام 2012 وهو يولى أهمية قصوى لقضية رفع كفاءة القوات المسلحة، وتلبية احتياجات قطاعاتها المختلفة من الأسلحة، وتوفير ما ينقصها من قطع الغيار، وإعداد ما يلزم أفرادها من تدربيات عسكرية عالية الكفاءة لمواجهة الحرب الإرهابية التى تشنها جماعة الإخوان وأنصارها على الدولة والمجتمع، وترتيب أوضاع الجيش القيادية، ولم تكن زيارته لروسيا الاتحادية، وإجراء المناورات العسكرية مع دولة الإمارات العربية بعيدة عن هذا الاهتمام، وكان كل ذلك يجرى أمام أعيننا صباح مساء، بما يجعل حديث التباطؤ والتأخر والإرجاء، ينطوى على مبالغة، ربما فرضتها حملة المرشح المنافس «حمدين صباحى» حين تباهت بأسبقيته فى إعلان ترشحه للرئاسة، فيما تأخر من يفترض أن ينافسوه، فضلا عن حملة الدعاية السوداء المثقلة بالشائعات والأكاذيب والتهديدات النارية التي تقودها جماعة الإخوان وأنصارها فى الداخل والخارج، ضد ترشح «السيسى»! كنت واثقة أن «السيسى» لن يستطيع أن يخذل الملايين التى ملأت الميادين فى الثلاثين من يونية العام الماضى، والتى خرجت تستدعيه لمساندتها فى التخلص من نظام حكم فاشى وفاشل وفاسد، قامر وهو يتاجر بالدين، بمستقبل وطنهم، وهدد وحدته الوطنية بتغذية الصراعات الطائفية والمذهبية، وأعد العدة لهدم مؤسسات الدولة القائمة واستبدالها بمؤسسات بديلة تنفذ مخططه فى الهدم والإحلال والتبديل، وقمع كل صوت معارض، وشراء الأنصار والولاءات والإغداق عليهم من المال العام، هذا فضلا عن أنه كان قد أعلن قبل عدة أسابيع، فى احتفال للقوات المسلحة لتكريم أسر الشهداء، عن نيته للتقدم بالترشح للرئاسة، فى الوقت المناسب. وكما كان متوقعا، وقبل ثلاثة أيام من الموعد الذى حددته اللجنة العليا للانتخابات غدا الأحد، لإعلان جدولها الزمنى للانتخابات الرئاسية، وبعد نحو شهرين من إعلان نتائج الاستفتاء على الدستور، تقدم «عبدالفتاح السيسى» مساء يوم الأربعاء بخطاب إلى الأمة يعلن فيه ترشحه للرئاسة، لتدخل المرحلة الثانية من خريطة المستقبل حيز التنفيذ. وفى خطابه امتزجت العواطف بالحديث العقلانى، واتسمت لغته البسيطة بالرصانة، والحزم والتواضع وعفة اللسان، وقوة المعانى ووضوح الأفكار والأهداف، والرؤى، التى تبعث الآمال لدى المصريين فى قدرة عملهم المشترك على «استعادة مصر» و«إعادة بنائها» كى تأخذ ما تستحقه من مكانة على خريطة العالم المتقدم. بدا «السيسى» متأثرا ورنة حزن تغلف صوته، وهو يعلن تركه لموقعه فى الجيش، امتثالا لقانون مباشرة الحقوق السياسية: الذى يحظر على قوات الجيش والشرطة، التصويت والترشيح، لحين ترك مواقعهم الوظيفية: «اليوم أقف أمامكم للمرة الأخيرة بزيى العسكرى..حوالى 45 سنة وأنا أتشرف بزى الدفاع عن الوطن.. النهارده، أترك هذا الزى أيضا من أجل الدفاع عن الوطن»، وربما كان «السيسي» مثقلا بهول المهمة التى يقدم عليها، وحجم التحديات الصعبة التى تعترض برنامجه الطموح «لإعادة بناء جهاز الدولة، ليستعيد قدرته، ويسترد تماسكه، ويتحدث بلغة واحدة.. وإعادة عجلة الإنتاج إلى الدوران فى كل القطاعات..واسترداد هيبة الدولة وإعادة ملامحها مما اصابها خلال الفترات الماضية». وبلهجة حاسمة وقاطعة حذر «السيسى» من الاستهتار والعبث ببلادنا مؤكدا أن «الاستهتار فى حق مصر مغامرة لها عواقبها، ولها حسابها» وأن مصر «ليست ملعبا لطرف داخلى أو إقليمى أو دولى ولن تكون» وجدد «السيسى» التزامه بمواصلة محاربة الإرهاب، لإخلاء مصر والمنطقة بكاملها منه، وتعهد بأن يكون الوطن لكل ابنائه دون إقصاء أو استثناء أو تفرقة، او تصفية لحسابات شخصية، شريطة ان يخضع الجميع للقانون. لم يقطع «السيسى» أبدا فى خطابه بأنه الرئيس القادم، لكنه استخدم بتواضع جم أسلوب الشرط «إذا ما أتيح لى شرف القيادة» وهو الأسلوب الذى بدا متسقا مع حديثه الذى اتسم بالاحترام وعفة القول، حين اكد أن إقدامه على الترشح لا يحجب حق غيره فى ذلك، ليس هذا فحسب، بل تعبيره عن السعادة «ان ينجح أي من يختار الشعب ويحوز ثقة الناخبين.» لكن أبرز ما جاء فى خطاب «السيسى» أنه خلا من اللغة الشعبوية التى تستهدف معابثة مشاعر المواطنين وخداعهم بوعود براقة، وتعمد إخفاء الحقائق عنهم، كان خطابا لبعث الأمل، وشحذ همم المصريين بحثهم على بذل الجهد الشاق والعرق جنباً إلى جنب مع قادتهم لمكافحة ميراث أليم من الفقر والمرض والجهل والتخلف الاقتصادى، وتأكيده قدرة المصريين على قهر هذا الميراث بما يملكونه من غنى فى الموارد البشرية والطبيعية، بشرط الاصطفاف والتوحد والعمل الجاد المخلص والصبر الإيجابى الذى يمنح الفرص والأزمان اللازمة لحل المشكلات وفقا لأولوياتها، دون ضغوط مجتمعية تساهم فى تعقيدها. تعهد «السيسى» فى خطابه، بحملة انتخابية غير تقليدية، تبتعد عن الإسراف فى الكلام والإنفاق، وبطرح برنامجه الانتخابى الذى يتمحور حول بناء دولة مصرية ديمقراطية حديثة، قادرة على المنافسة بلغة العصر، عقب أن تعلن اللجنة العليا للانتخابات موعد بدء الحملة الانتخابية، وهو ما يرجح أن تكشف عنه اللجنة غدا الأحد. ومن المرجح حتى الآن أن تنحصر الحملة الانتخابية بين اثنين كليهما من المعسكر الوطنى، عبد الفتاح السيسى وحمدين صباحى وهو ما يفترض ان تسمو لغة التنافس فى الحملات الانتخابية لكليهما، وأن ترتقى لغة الحديث الانتخابى لحملة كل منهما، وهو ما عبر عنه صراحة خطاب «السيسى» بعدم الإفراط فى الكلام والإسراف فى الإنفاق، فضلا عن أن اللجنة العليا للانتخابات تعهدت بمنح فرص متساوية لكل المرشحين، فى وسائل الاعلام المملوكة للدولة، وهو التعهد نفسه الذى قطعه رئيس الجمهورية المستشار عدلى منصور بتعامل كافة أجهزة الدولة بحياد كامل مع كل المرشحين للرئاسة، لغلق كافة الشكوك والريب، والخطط التى تسعى إلى عرقلة الانتقال السلس إلى الخطوة التالية من خريطة المستقبل، والتى كان على رأسها المظاهرات التخريبية لأنصار جماعة الإخوان فى الجامعات المصرية، تزامنا مع الموعد الذى أعلن فيه «السيسى» عزمه على الترشح. باب الأمل ينفتح فى مصر على مصراعيه، كى نستعيد معا بعملنا المشترك دولة الحق والقانون والمؤسسات المنضبطة، التى ترفرف عليها رايات العدل والحرية، فتمسكوا به، ولا تسمحوا لأحد بإغلاقه مهما كانت جسامة التضحيات.