عندما أيدت برنامج الخصخصة - أى بيع القطاع العام - كنت موقنًا بسلامة هذا الموقف، خصوصًا أن الحكومة صانع سيئ.. وتاجر أسوأ!! وأن الحل لانقاذ هذا القطاع كان برفع يد الدولة عنه، وعودته قطاعًا خاصًا يقوم بدوره فى بناء المجتمع. إلى أن اكتشفت أن هذه الدعوة كان هدفها المعلن صالحًا.. ولكن هدفها الباطن كان فى غاية السوء. وكان لكل مؤيد لهذه الخصخصة هدفه الخاص.. منهم من كان يحلم بنصيبه من العمولات التى تدخل جيبه.. ومنهم من كان يرى أن عائد البيع كان سيستخدم لوضع أساس اقتصادى سليم، أى إصلاح الاقتصاد الوطنى، ومنهم من كان يريد أن يؤدب الوطن.. ونجح كل هؤلاء فى تحقيق أحلامهم. وهنا أتعجب - لماذا حتى الآن - لم تجر محاكمة الذين روجوا واستفادوا من عملية الخصخصة.. ولا حتى مساءلة الذين أساءوا استخدام حصيلة البيع لتحسين أوضاع الاقتصاد الوطنى إلى أن اكتشفنا أن حصيلة البيع غاصت فى مجارى الفساد الاقتصادى.. أقصد ذهبت دون أى إصلاح، أقول ذلك، لأن قانون الخصخصة كان ينص على تخصيص ثلث ناتج البيع لسداد أعباء المعاش المبكر للعاملين، والثلث الثانى يذهب إلى المالية بصفتها المالكة، والثلث لتحسين أوضاع الشركات المتعثرة.. ولكننا اكتشفنا أن الحكومة استولت على الثلثين!! ولكن أخطر ما جرى فى عملية الخصخصة هو أن الحكومة باعت الشركات والمصانع الناجحة الرابحة التى كانت تمتلك أصولاً ثابتة من أراض ومعدات ومخازن وعقارات.. هنا ظهرت لعبة «بيع أصول مصر» أى بيع مصر نفسها. وكان لابد من وقفة.. وكان أبشع مثل لهذا البيع هو ما حدث لشركة المراجل، التى كانت تنتج صناعة أساسية، هى أساس أى صناعة ثقيلة بسبب حاجتنا للمراجل، فى محطات توليد الكهرباء، وفى غيرها من الصناعات الأساسية الأخرى.. فضلا عن الأراضى الشاسعة التى تمتلكها الشركة. وكانت جريمة الخصخصة، بهذا الشكل، من أهم أسباب زيادة عدد العاطلين وإذا كان بعض هؤلاء الذين أخرجوا بنظام المعاش المبكر قد رحبوا بالمبالغ المالية التى صرفت لهم، فإن كثيرين منهم أنفقوها على الزواج المتكرر.. أو على الإنفاق الاستهلاكى الذى ابتلع كل هذه المبالغ.. تمامًا كما ابتلعت الميزانية العامة للدولة حصيلة البيع.. والتى لا تكفيها عشرات المليارات، لما تعانيه من عجز دائم.. وسوء إدارة رهيب. فلا الدولة استفادت بإصلاح ما يمكن إصلاحه من شركات ومصانع عانت طويلاً من سوء الإدارة «العامة» ولا العاملون أنفسهم نعموا كما يجب بما صرف لهم، وكان يجب عليهم أن يحسنوا استخدامه.. وكما ضاعت على الدولة حصيلة البيع.. ضاعت على العاملين المبالغ التى صرفت لهم. وإذا كنت لن أتنازل عن ضرورة محاكمة الذين أساءوا عملية بيع أصول مصر - ومنهم من وصل إلى موقع رئيس الوزراء ومنهم من كان من الوزراء - فإننى أنضم اليوم لمن يطالبون بإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وإذا كنت أرى أن رجل الصناعة الأول الذى أقام هذه الصروح الصناعية - وهو الدكتور عزيز صدقى - قد مات كمدًا وهو يرى جريمة البيع دون استغلال طيب لعوائدها.. فإن أمامنا الآن فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأرى أن نبدأ بقطاع الغزل والنسيج، الذى كان درة مصانع مصر لعدة أسباب أهمها أن هذا القطاع كان يستوعب أكثر من ثلث القوى العاملة المصرية كلها.. وأرى أن أحدًا لن يستغنى عن الملابس.. وكانت مصر تكتفى ذاتيًا من انتاج النسيج المصرى.. والباقى يتم تصديره.. والجريمة التى لحقت بهذا القطاع تمثلت فى وقف عملية إصلاحه وتطوير معداته.. وبدأت هذه الجريمة خلال حرب الاستنزاف، ولكنها توسعت مع عصر الانفتاح. ومن المؤكد أن ما يعانيه الآن عمال مصانع الغزل والنسيج - وامتد ذلك إلى زراعة القطن نفسه - هو ناتج هذا الاهمال المتعمد ونجح المجرمون بسوء إدارتهم لمصانع هذا القطاع، وجاءت اعتصامات عمال المحلة هذه الأيام لتؤكد أن سبب البلوي الحالية، هو سوء الإدارة.. مع توقف التطوير. ولكن الفرصة لم تمت بعد، بل مازال الأمل باقيًا لإنقاذ هذه الصناعة التى بدأها محمد على باشا.. وسار جمال عبدالناصر على نهجها. من هنا تأتى أهمية الحركة الشعبية لدعم تطوير القطاع العام وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثروة مصر القومية.