كل ما يكتب وكتب عن السيدة أم كلثوم لن يمنحها حقها باعتبارها سيدة الغناء العربي، وكل ما يكتب وكتب عنها ليس به أي جديد، لكن يبقى شىء مهم جداً لابد وأن نضعه في الاعتبار، وهو حتى لو لم يكن هناك جديد يكتب عن عمالقة الغناء من نوعية أم كلثوم، عما نكتب. الكتابة عن أم كلثوم ضرورة لأننا عندما نتحدث عنها فاننا نتحدث عن ثورة قومية، مازالت تعطي وتمنح من فنها، كبريائها الكثير رغم رحيلها عن عالمنا منذ 39 عاما، فأعمالها مازالت تعطينا البهجة والأمل، اعمالها تؤكد أن مصر صاحبة حضارة كبيرة في الغناء لا ينافسها فيها أحد، أم كلثوم وحدها كفيلة بترجيح كفة مصر، أمام أي بلد آخر مهما كانت حضارته،ومهما قدمت من المطربين، فكل عمل من أعمال السيدة أم كلثوم يساوي تاريخاً أي مطرب أو مطربة أخرى، هكذا يقول الواقع والمنطق، هكذا تقول كل الحسابات والأرقام، وكل مفردات التقييم. أم كلثوم وحدها صنعت تاريخاً غنائياً لا يقارن بأحد، ولم ولن يصنعه أحد. أم كلثوم رحلت قبل 39 عاماً ومازالت اعمالها تتحدث عنها «الأطلال، وهذه ليلتي، وأنت عمري، وحب إيه، والحب كده، وليلة حب، وبتفكر في مين، ودارت الأيام، وحكم علينا الهوى، والقلب يعشق كل جميل، وانت الحب، ويا مسهرني، ويا ظلمني، ومن أجل عينيك، ومصر تتحدث عن نفسها، وعلى باب مصر، وأصبح الآن عندي بندقية، ومصر التي في خاطري، وأنا الشعب، وأمل حياتي، وفكروني، وبعيد عنك، وسيرة حب، وفات الميعاد، وأروح لمين، وولد الهدى، وظلمنا الحب، واسأل روحك، ورق الحبيب، ورباعيات الخيام..»، كوكتيل من الأغاني يمثل خلاصة تجارب شعراء وملحنين وموسيقيين من الفئة التي لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر، هل يتكرر رياض السنباطي أو محمد القصبجي وزكريا أحمد أو محمد عبد الوهاب أو محمد الموجي أو بليغ حمدي وأبوالعلا محمد وسيد مكاوي والطويل؟ هل يتكرر ابراهيم ناجي، وحافظ ابراهيم وأحمد رامي وأحمد شوقي، ومأمون الشناوي، وأحمد شفيق كامل، وبيرم التونسي، وعبد الوهاب محمد، وجورج جرداق، والهادي آدم، وعبدالله الفيصل، وعبد المنعم السباعي، وعبد الفتاح مصطفى من الشعراء؟ ناهيك عن تلك الفرقة الموسيقية، كل اسم من هؤلاء يساوي تاريخاً ويصنع تاريخاً. هذه الأسماء وضعت أم كلثوم على القمة حتى بعد رحيلها ب 39 عاماً، وستظل أم كلثوم بفضل موهبتها، وموهبة هؤلاء الاسم الذي لن يتكرر. رحلت أم كلثوم منذ 39 عاماً وخلال هذا العمر ظهرت مئات الأصوات بعضها يمتلك موهبة الصوت بكل ما تحمله من معنى مثل آمال ماهر ومي فاروق وريهام عبد الحكيم ومروة ناجي، لكن هذه الأسماء ظهرت في زمن لا يحترم الموهبة الى جانب أن كلاً منهن لم تسع الى بناء شخصيتها كما فعلت أم كلثوم، وربما نلتمس لهن العذر لأن الزمن غير الزمن، والملحنون والشعراء غير الراحلين، لكن في كل الأحوال لم تسطع أي منهن أن تسد الفراغ، قبلهن ظهرت أسماء وبعدهن ستظهر أسماء وأسماء، لكن تبقى أم كلثوم هى الفكر والقيمة والقامة، أم كلثوم وضعت لنفسها طريقاً سارت عليه رغم أن وقتها أيضاً ظهرت موجات غنائية، لكنها ظلت تسير وفق منهج وضعته وكان التطور في شخصيتها الغنائية بحساب شديد، ووفق متغيرات ومقاييس. 39 عاماً مرت على رحيل كوكب الشرق وسنظل نحتفل بها وكل الأجيال القادمة لأنها تمثل «شهيق وزفير» الغناء، ولأنها تمثل الشخصية المصرية الحقة في الغناء، في الوقت الذي جاءت بعدها أجيال سعت وجرت ولهثت وراء الموضة الغنائية، فأصبحوا كالأجنة المشوهة لا ملامح لهم، خليط سيئ من الموسيقى العالمية اللاتينية على الهندية على التركية على الغربية، لذلك منذ رحيل هذه السيدة لم يعد للغناء المصري طعم، لم تعد تستطيع أن تضع يدك على عمل وتقول إنه الغناء المصري، تجارب هنا وتجارب هناك قليلة قد تحسبها على الأغنية المصرية، لكنك في النهاية لا تستطيع أن تضع يدك على مطرب أو مطربة تقول إنه مصري بحق، حتى الذين نضعهم على قائمة كبار المطربين ماذا قدموا للفن؟ بعض التجارب غير المكتملة النمو، وبالتالي كلما اردنا التحدث عن ريادتنا نعود للخلف الى السيدة أم كلثوم وعبد الحليم وزمنهما الجميل. الآن ماذا قدمت أنغام أو آمال ماهر أو شيرين؟ وربما يكون السؤال الذي يطرح هل هناك مطربة بالأساس حملت لواء الغناء بعد رحيل هذه السيدة، لم أر مطربة واحدة استقرت على القمة عامين متتاليين ولم نجد للكثير منهن أغنية عاشت طوال خمس سنوات ليس أكثر، اللهم الا القليل الذي يعد على أصابع اليد الواحدة، وقد تصل لتلك الأغاني بعد تفكير عميق، هذا هو الفارق بين غناء أم كلثوم الذي مازال كلما يقدم نتجمع حوله، وننعى حظنا أننا لم نعش هذا العصر، والغناء الآخر الذي يشعرك بالنفور ويفقد شهيتك في الاستماع للغناء، هذا هو الفارق بين قصيدة مثل الأطلال عمرها 48 عاماً، ومازالت موجودة أو أغنية مثل « انت عمري» والتي مر على غنائها 50 سنة نصف قرن من الزمن، ومازالت موجودة تغني، وكأنها ابدعت أمس، وأغنية «رق الحبيب» وعمرها 75 عاماً ومازالت توضع في مقدمة الأعمال العربية من حيث الكلمة واللحن والغناء، هل هناك من منافس لهذه السيدة، وهل هناك من منافس لهذه الأعمال؟ كلما استمع الى كلمات وألحان مطربي هذا الجيل، وتعليقاتهم السافرة حول الغناء الحالي، وزمن الغناء الجميل أشعر بالغثيان، لأن بعضهم يرى أنهم فعلوا ما لم يفعله أحد، رغم أن اعظم اغنية قدمها هذا الجيل، موهبته التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات عبارة عن جمل موسيقية واحدة، وفي الغالب ستكون مسروقة من بليغ حمدي رحمه الله. الفارق بين زمن الغناء الجميل - وهى الجملة التي تغضب من ظهروا بعد هوجة الثمانينيات - وبين زمن غناء العوالم، كبير في كل شىء في الاجتماعيات، وسلوكيات التعامل مع الآخرين، أصحاب هوجة الثمانينيات عندما يتحدثون عما قدموه تجد نصف جملة بالانجليزية حتى يهربوا من خيبة الأمل التي صنعوها لنا أما اصحاب الزمن الجميل مثل أم كلثوم عندما تعود للتسجيلات الخاصة بها تكتشف مدى تمكنها من لغتها، وحرصها على مخارج الألفاظ حتى في الكلام، الى جانب شياكة الجملة واختيار الألفاظ، لذلك نجحوا في الغناء ونجحوا في الوصول الى قلوب الناس، عاشوا مئات السنين، بينما هذا الجيل عمره الفني لا يتجاوز مدة طرح الأغنية في الأسواق وهى شهر على الأكثر. عاشت أم كلثوم لانها غنت من أجل امتاع الناس، لأنها غنت من أجل المستقبل، ولم تغن من أجل الأموال، لذلك بقيت سيدة الغناء ورحل هذا الجيل الحالي وهو على قيد الحياة. أمجد مصطفى