إذا كانت النية صادقة في دفع مصر للاتجاه الصحيح فإصلاح التعليم أولا، إذا أردنا ان نخطو خطوات ثابتة نحو ما نردده كل يوم ونملأ به صحفنا من ضرورات الإصلاح والتغيير والديمقراطية والحرية.. إلخ، فإصلاح التعليم أولا، إذا حرصنا على أن نستعيد لمصر هيبتها واحترامها ودورها الإقليمي والعالمي ونستثمر ما لها من خصوصية في موقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية فإصلاح التعليم أولا، إذا أردنا القضاء على ثقافة الفقر وجذور الفساد الضاربة في كل مؤسسات الدولة والقضاء على التطرف بكل أشكاله وعلى مختلف الأصعدة فإصلاح التعليم أولا، إذا أردنا إنقاذ مصر من أطماع الطامعين وعملاء ووكلاء الشياطين المتخصصين في نشر الخراب أينما حلوا ووقتما وجدوا فإصلاح التعليم أولا، لأنه – أي التعليم – السبيل الوحيد الذي سيدفع مجتمعنا للنهضة وسيضعه في مصاف المجتمعات المتطورة، كما أنه المنهج الأمثل الذي يمكن من خلاله استغلال جميع الموارد الطبيعية والبشرية، فما جدوى أن تمتلك أية دولة كل ثروات الأرض دون أن يكون لديها أفراد تعلموا كيفية توظيف هذه الثروات والاستفادة منها؟!.. وما جدوى البحث عن الحرية والعقول قد تشبعت بالثقافة الجاهزة وكادت أن تتحول إلى أجهزة مثالية لتخزين وتجميد الأفكار؟!.. وما جدوى المعرفة إذا لم تصل صاحبها بالمجتمع: بماضيه وحاضره ومستقبله؟!.. وما جدوى عشرات المليارات من الجنيهات أنفقتها مصر ولا تزال تنفقها على تعليم هو في حقيقته أبعد ما يكون عن التعليم ولا يزال المجتمع في تدهور ولا تزال أمية المتعلمين في ازدياد؟!.. ولا أعرف ما سر هذه القناعة الغريبة بضرورة الحفاظ على دوام هذا الحال رغم خطورته على الشعب والحكومة معاً؟!.. ويكفي أن نسبة الأمية ظلت تزحف بسبب هذا التعليم المتخلف حتى افترست أكثر من 40% من أبناء هذا الشعب والأدهى أنها وصلت في بعض مناطق الصعيد «أسيوط» إلى أكثر من 60% هذا إذا افترضنا ان أربعة صفوف من المرحلة الابتدائية تسمح بمحو أمية القراءة والكتابة عند الأطفال فعلا، وهو ما يتناقض تماما مع الواقع الذي يؤكد أن ارتفاع نسبة الأمية ربما يجاوز تلك الأرقام ويكفي أن نسبة المتسربين من المدارس قد بلغت 33% بينما لم يتمكن أكثر من 10% من الأطفال من الالتحاق بالمدارس بسبب الفقر، الأمر الذي يتناقض تماما مع العهود والمواثيق الدولية التي أقرتها الأممالمتحدة وجماعات حقوق الإنسان، ويكفي كذلك أنه عندما تم اختيار أفضل جامعات في العالم، لم تكن من بينها جامعة مصرية واحدة. كل هذا يعني أن نظام التعليم في مصر – بصورته الحالية – لم ولن يحقق رسالته الأساسية المتمثلة في الارتقاء بالمواطن ودفع عجلة التنمية للمجتمع، كما يعني أن النظم المتعاقبة على حكم مصر حتى بعد ثورتي يناير ويونية، لم تدرك أو تفهم حتى هذه اللحظة أهمية وجود نظام تعليمي يحترم عقل الفرد ويوجهه للبحث والتحليل والتفحص. للأسف الشديد تأتي حكومة وتذهب حكومة وتتغير الأسماء والأزمنة وتبقى همزة الوصل الوحيدة بين هذه الحكومات والأنظمة هي مجرد التقارير السنوية التي تحاول من خلالها كل وزارة للتعليم التباهي بحجم إنفاقها على العملية التعليمية، والنتيجة لا تزيد في أحسن الأحوال علي إقامة الندوات والمؤتمرات وإصدار التوصيات وتقديم الأبحاث والدراسات وإلقاء الخطب واستقبال الوفود في أفخم الفنادق وعلى رأي المثل: «زغردي ياللي مانتيش غرمانة». إن إصلاح التعليم يتطلب إعادة مدروسة لهيكلة النظام التعليمي كله في مصر فيجب أن تعود المدرسة لكونها المنهل الأول للمعرفة والملاذ الآمن الوحيد الذي يلجأ إليه طلبة العلم من القادرين وغير القادرين، دون أن تكون الفروق الطبقية هي الحد الفاصل في نوعية الخدمات التعليمية التي يتلقاها طلاب العلم في المدارس الحكومية وغير الحكومية، يجب أن تعود المدرسة لكونها مؤسسة علمية راقية تسهم بشكل مباشر وغير مباشر في عمليات التغيير الاجتماعي والمحافظة على التراث بدلاً من أن تكون مجالاً خصباً للتعصب والشقاق وكذلك البزنس الذي يمارسه أصحاب النفوس الضعيفة من أنصاف المدرسين أو مجرد أبنية تشبه الثكنات العسكرية المعزولة عن المجتمع، مما يضطر الطلاب للبقاء دائما في حالة انتظار وترقب للحظة التي يتم فيها التحرر والانفلات من حصار أسوار المدرسة، يجب زيادة عدد المدارس لتقليل حدة تكدس التلاميذ في الفصول والذي أدى لحرمانهم من فرصتهم في التحصيل المعرفي، وفي الوقت نفسه توفير القدر الزمني المناسب لعمليتي التلقي والتحاور بين الأستاذ والتلميذ، يجب تدريب المدرسين على أحدث التقنيات العلمية، يجب تجريم ظاهرة الدروس الخصوصية، يجب وضع المناهج اللائقة بعقلية التلاميذ في القرن الحادي والعشرين، يجب أشياء كثيرة قد لا تكفيها هذه الأسطر لكن الذي لا يجب مطلقا هو المراهنة على مستقبلنا والتراخي في مواجهة التحديات المحيطة بنا وتركنا ل «نظام تعليم» يقوم أساساً على التجهيل وتخريب العقول.