رغم ما تحقق من تقدم علي طريق تحقيق الإرادة الشعبية، فإن الطريق ما زال طويلاً في سبيل إدراك جوهر الثورة المصرية المجيدة، وتجسيد ما حملته من مبادئ سامية ترسي قواعد دولة ديمقراطية حديثة، لا تحمل من سمات العقود الماضية ما يثير الشكوك حول إمكانية الارتداد إلي الخلف، إلي أن تترسخ ديمقراطيتنا، وتصبح قادرة علي إنفاذ قيمها السياسية باعتبارها ثقافة مجتمعية، أكثر منها مجموعة من المبادئ الدستورية والقوانين التي لا تجد من يتحمس لها، ناهيك عن المتربصين بها. ونظراً لتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتدني مستوي المعيشة لشرائح كبيرة في المجتمع المصري، فإن جل الاهتمام في الشارع المصري يتركز علي الثمار الاقتصادية للثورة، وما يمكن أن يتحقق للمواطن البسيط من مزايا تنعكس علي حياته اليومية، وهو حق مشروع، وهدف لا بديل عنه. غير أن الثورة الشعبية من شأنها التأكيد علي أهمية الارتفاع بدرجة الوعي السياسي، الأمر الذي يدفع بكثير من القضايا السياسية إلي دائرة اهتمام الرأي العام، بعد إدراك المجتمع أن عجلة الاقتصاد لا يمكنها الدوران في غياب ركود سياسي، يشل حركة المجتمع نحو آفاق المجتمعات المتحضرة. من هنا كان المفهوم الشامل للتنمية، هو الأقرب إلي التجارب الدولية الناجحة في هذا الشأن، حيث لا تحل التنمية الاقتصادية محل التنمية السياسية، كذلك لا ينبغي للتنمية الاجتماعية أن تتخلف، وبالتالي تتشكل لدينا منظومة متكاملة تحقق المفهوم الشامل للتنمية، حيث التنمية نوع من التغيير الذي يستهدف البيئة من حيث التهيئة والتجهيزات وكذا المعارف والاتجاهات والممارسات. في هذا السياق، ينبغي الدفع باتجاه تعزيز الوعي السياسي، خاصة ونحن مقبلون علي استحقاقات سنواجه فيها الرأي العام، الذي عليه أن يتحمل مسئولياته الوطنية أمام صناديق الاقتراع عن وعي حقيقي، فيدرك أن التنمية مفهوم شامل لا يقبل التجزئة؛ ومن ثم فإن التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي ينشده المواطن، لا يمكن الوثوق بتحققه ما لم يتحقق تطور مماثل في مجالات التنمية السياسية والممارسة الديمقراطية، تماماً كما أن التنمية السياسية لا تتحقق بعيداً عن تطور مؤسسات وأجهزة النظام السياسي، بل لا نتجاوز الحقيقة إن نحن أكدنا علي أن التنمية السياسية لا يمكن إدراكها إلا بالقيم السياسية السائدة في المجتمع. وعليه فإن تقدماً اقتصادياً في ظل ممارسات تُعلي من شأن الاستقطاب السياسي، واحتكار السلطة، وتأميم القضايا الأساسية للمجتمع في حساب فصيل واحد، هي أمور لا تتفق والمنطق السياسي، الذي عبرت عنه التجارب الدولية الناجحة في هذا الشأن. إذن الحديث عن التنمية السياسية لا ينبغي أن يُحتجز في دوائر النخبة، بل هو منطلق أساسي لبحث الأحوال المعيشية اليومية للمواطن، وينبغي إبراز تلك المعاني التي تضع المواطن أمام مسئولياته الوطنية وهو يمارس واجبه أمام صناديق الاقتراع، حتى لا تتعرض إرادته للسطو والتزييف، بأشكال متعددة من محترفي تلك الممارسات في زحام طوابير الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. فلتنهض إذن جهود منظمات المجتمع المدني، ومن بداخلها من الحقوقيين المتسترين بأغطية دولية، يجابهون ثقافة إقصاء المواطن عن المعترك السياسي، واحتجازه داخل همومه الاقتصادية المتلاحقة، بوصفها ممارسات مشبوهة مناهضة لحقوق الإنسان، قدر ما هي تنتمي إلي ذات الفكر الذي أشاع فيه رموز نظام مبارك الفاسد أن الشعب مازال قاصراً عن استيعاب الممارسات الديمقراطية، وكيف أنهم سيقدمون له الديمقراطية «عندما يكبر».! «الوفد»