منذ اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، ومصر تشهد جدلاً مستمراً حول قضية مكافحة الإرهاب، يتصاعد أحياناً ويخفت أحياناً أخرى ولكنه لا ينتهى. وخلال فترة التسعينيات مرت مصر بفترة مريرة من الإرهاب الأسود، أسفرت عن سقوط آلاف الضحايا والجرحى، وتكبد خلالها الاقتصاد المصري خسائر بالمليارات. ورغم فرض قانون الطوارئ وإصدار القانون رقم 97 لسنة 1992 باسم قانون مكافحة الإرهاب، إلا أن العمليات الإرهابية استمرت، حتي جاء إعلان الجماعة الإسلامية المفاجئ في يوليو 1997 بإعلان مبادرة إنهاء العنف، وما تلى ذلك من الإفراج عن آلاف المعتقلين، ثم مراجعات تنظيم الجهاد بعد ذلك، وهو ما أدى في النهاية إلي توقف الأعمال الإرهابية باستثناء العمليات المحدودة التي شهدتها مصر منذ حادث طابا في 2004 وحتي حادثة الحسين في 2009. وقد تعرض قانون مكافحة الإرهاب رقم 97 لسنة 1992 لانتقادات حادة، حيث وصفته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان حين ذاك بأنه انتكاسة جديدة لحقوق الإنسان، نظراً لخروجه عن أهدافه الخاصة بمكافحة الإرهاب إلي نطاق قمع حريات الرأى والتعبير والنشاط السياسي السلمى. كما تعرض القانون لانتقادات من لجنة حقوق الإنسان عن مراجعتها لتقرير مصر عام 1993، وتقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالإرهاب بعد زيارته لمصر في أبريل 2009. ولا تختلف بأية حال من الأحوال نصوص مشروع قانون مكافحة الإرهاب 2013، عن نصوص مشروع قانون 2008، ولا عن نصوص القانون الصادر عام 1992، لا من حيث الروح أو الفلسفة أو المضمون. مع مراعاة أن قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 1992، لم يمنع الإرهاب ولم يقضى عليه ولكنه كبل الحريات وقيدها. والملامح الرئيسية المعلنة للمشروع الحالي تؤكد أنه الأسوأ بين سابقيه، من حيث استخدام التعبيرات الغامضة والمعاني الفضفاضة والتي لا تخضع للضبط القانوني، وتقبل تفسيرات متعددة طبقاً لتوجهات وطبيعة ومرجعيات النظام الحاكم كما جاء في المادة الثانية من نصوص مثل: «الإخلال الجسيم بالنظام العام»، أو «تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمنه للخطر»، أو «تعريض حياة الأشخاص أو حرياتهم أو حقوقهم العامة أو أمنهم للخطر»، أو «إلحاق الضرر بالبيئة»، أو «منع أو عرقلة السلطات العامة»، أو «منع أو عرقلة قيام دور العبادة أو مؤسسات ومعاهد العلم بأعمالها»، أو «تعطيل تطبيق أي من أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح»، و«كذلك كل سلوك من شأنه الإضرار بالاتصالات أو بالنظم المعلوماتية». كذلك وطبقاً للمادتين الخامسة والسادسة، امتد مشروع القانون إلي تجريم النوايا لا الأفعال، واعتبر جريمتي الشروع والمساهمة مثل الجريمة التامة، وقرروا لها ذات عقوبة الجريمة التامة، حتي لو تم الرجوع عنها بالمخالفة لما استقرت عليه أحكام المحكمة الدستورية فيما يتعلق بانعدام الركن المادى للجريمة. كما توسع المشروع في ضم العديد من الأفعال السلمية ليدرجها ضمن الجرائم الإرهابية، كما ورد في المادة الثانية عشرة، حيث عاقب بالسجن المشدد الذي قد يصل إلي عقوبة الإعدام كل من أسس أو نظم جمعية أو هيئة أو منظمة، يكون الغرض منها الدعوة بأية وسيلة لتعطيل أحكام الدستور أو القوانين أو الاعتداء علي الحريات والحقوق العامة والشخصية للمواطنين، أو الإضرار بالوحدة الوطنية، وهي تعبيرات واسعة قابلة للتأويل استخدمها الرئيس الراحل أنور السادات للتنكيل بكل معارضيه في سبتمبر 1981، واستخدامها النظام القمعى السابق، بل ويمكن تطبيقها علي الشعب المصرى بأحزابه وحركاته الثورية الذين أسقطوا دستور 71 بعد قيام ثورة 25 يناير، وأسقطوا دستور الإخوان بعد ثورة 30 يونية. وتفرض المادة الحادية والعشرون من مشروع القانون قيوداً عديدة علي حرية الرأي والتعبير، حيث تعاقب بالسجن المشدد الذي يصل لخمس سنوات كل من روج بأي شكل من وسائل التعبير أو النشر لأفكار أو معتقدات يعتبرها القانون تدعو للعنف والإرهاب، وكذلك كل من حاز مطبوعات أو أوراقاً أو وسائط إلكترونية، وتشدد العقوبة إلي عشر سنوات إذا كان ذلك داخل دور العبادة أو القوات المسلحة. كما يفرض المشروع قيوداً كبيرة على استخدام الإنترنت سواء لمن أنشأ موقعاً أو كان مستخدماً له، إذا كان ذلك بغرض الترويج لأفكار أو معتقدات داعية للعنف كما جاء بالمشروع طبقاً للمادتين السابعة والثامنة والعشرين. كما أنشأ المشروع طبقاً للمادة السابعة والثلاثين نيابة متخصصة تسمي نيابة الجرائم الإرهابية منحها سلطات واختصاصات مطلقة تشمل سلطات واختصاصات النيابة العامة وقاضى التحقيق ومحكمة الجنح المستأنفة لتكون سلطة التحقيق والاتهام والقضاء في ذات الوقت، وأطلق فترة الحبس الاحتياطى إلي مدة ستة أشهر، وهي سلطات واختصاصات تشكل انتهاكاً جسيماً للحقوق والحريات العامة والشخصية للمواطنين بالمخالفة لأحكام المحكمة الدستورية العليا، كما يخل بمبدأ درجات التقاضى، ويمنح للسلطة التنفيذية التدخل في شئون العدالة، حيث تنص المادة الأربعون علي تخصيص دوائر بمحاكمة الجنايات والمحاكم الجزئية والمحاكم الابتدائية لنظر الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون. كما تطلق المادة التاسعة والثلاثون حق سلطات النيابة في الاطلاع علي حساب العملاء وودائعهم وأماناتهم وخزائنهم في البنوك. والأخطر هو إطلاق حق سلطات مأموري الضبط القضائى ورجال السلطة العامة في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لإجهاض الأعمال الإرهابية في مراحلها التحضيرية، وهو ما يعد إخلالاً جسيماً وعاصفاً بكل ضمانات الحقوق والحريات العامة والخاصة المكفولة للمواطنين بحكم الدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر، وأحكام المحكمة الدستورية العليا. وفي هذا الإطار تري العديد من القوي السياسية والمجتمعية أن مكافحة الإرهاب لا تقتضى تفويضاً مفتوحاً للأجهزة الأمنية بالعمل خارج نطاق القانون، بل إن المطلوب هو إلزام الأجهزة الأمنية بأداء واجبها ضد الأعمال الإرهابية في إطار احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان، وفي إطار ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة. بينما ينظر البعض الآخر بعين الخشية من أن يؤدى هذا القانون والممارسات الأمنية التالية إلي شرخ وحدة الصف المجتمعي الداعم للأجهزة الأمنية في مواجهة العمليات الإرهابية المسلحة التي تعاظمت منذ إسقاط نظام الرئيس محمد مرسى. ومن هذا المنطلق تطالب العديد من القوي المجتمعية بإيجاد استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب ومحاصرته، وتجفيف منابعه، من خلال سرعة الانتهاء من خارطة الطريق وإيجاد مؤسسات شبابية ورئاسية منتخبة، تضع حلولاً لمعالجة تردى الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تشكل بيئة خصبة داعمة للإرهاب والتطرف، وتبني برامج حقيقية عاجلة لمواجهة الأمية والفقر، وتعاظيم الاهتمام بالمنطقة المهمشة والمهملة في مصر خصوصاً في سيناء والصعيد، مع رفع القدرات والإمكانيات الفنية والتقنية لأجهزة الأمن لتؤدى دورها في إطار سيادة القانون. وفي ذات الإطار يحذر الفقيه القانوني عصامي الإسلامبولى من أن مشروع قانون مكافحة الإرهاب إذا خرج بهذا المضمون سيواجه عدم الدستورية، منوهاً إلي أن المحكمة الدستورية وضعت مبادئ عامة يجب أن يلتزم بها كل قانون ينظم حقاً من الحقوق الدستورية، وهي ألا يكون التشريع منتقص لهذا الحق، وألا يعطل ممارسته، وألا ينال منه، وأن يضمن رقابة قضائية علي كل إجراء فيه بشكل مباشر ودون التفاف، وبدون هذه الضمانات يكون القانون مخلاً وغير دستورى. وأشار الإسلامبولى إلي أن هذا المشروع يستبدل نفسه بقانون الطوارئ في صياغة مكافحة الإرهاب، مشدداً علي أن ذلك سوف يوقع بالأبرياء الذين سيخضعون في لحظات لإجراءات هذا القانون ويتبين بعد ذلك عدم صحة الادعاءات المنسوبة إليه. ويضيف الإسلامبولى أن مصر ليست في حاجة إلى قانون لمكافحة الإرهاب، حيث يوجد فصل كامل يشمل المواد من 86 إلي 200، يتضمن جميع الإجراءات الكفيلة بمكافحة الإرهاب، مطالباً بتفعيله أو حتي بإجراء تعديلات عليه بما في ذلك تشديد العقوبات ولكن في إطار قانون العقوبات. ويبقى مشروع قانون مكافحة الإرهاب تحدياً جديداً أمام جميع أطراف المشهد السياسي المصري، في معركة لا يختلف أحد علي هدفها وهي إنقاذ مصر من الإرهاب الأسود الذي عاد ليطل بوجهه الكئيب وينال من استقرارها وأمنها وأبنائها، ولكن قد يبدو الاختلاف في أساليب المواجهة شاسعاً.