كان آخر عهدى بمكة المكرمة هو طواف الوداع أمس، ودعوت الله أن أعود مرة أخرى الى الأراضى المقدسة.. وأنال منها المزيد من الروحانيات والتبريكات التى تغذى الروح وتنقى النفس من الدنس، وتطهر القلب من صغائر الأمور، فى الطواف حول الكعبة والمرء يودع البيت الحرام، ينتاب الإنسان شعور آخر غير طواف القدوم أو الإفاضة أو طواف العمرة.. فى الوداع القلب يئن والنفس تأسى وأحياناً العبرات تذرف، ويتعلق المرء بأستار الكعبة رافضاً العودة الى الوطن ليحيا فى هذه الحالة الشعورية الفريدة. لست وحدى الذى حدث له ذلك، ورأيت العيون تلتهم الكعبة والنفوس مشدوهة إليها، والقلوب متعلقة بها، ودموع المودعين تذرف لهذا الوداع الأليم.. رأيت أحبة وعشاقاً حدثت لهم حالة شعورية، لكن هذه المرة أمام الكعبة، الجميع يتعلق بأستارها كما الطفل يمسك بجلباب أمه، أو العصفور إلى عشه، وأجمل ما فى الأمر أن النفوس تسمو والأفئدة تتنقى والقلوب تتطهر.. والمشاعر جياشة بحب الله والطاعة العمياء له ولا تفكير فى شىء سوى القرب من العلى القدير.. إنما حالة شعورية فريدة لا يدركها إلا من عايشها لحظة بلحظة ومع كل مرة في الطواف يتحسر القلب على قرب الفراق، وتمر السبع مرات للطواف وكأنها لحظات سريعة، ويتمنى المرء لو أنها تطول أكثر من ذلك، رغم الزحام الشديد والتكدس الرهيب فى الطواف.. وكل امرئ مشغول بالدعاء إلى الله الحى القيوم أن يؤتيه فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، والعودة مرة أخرى لنيل البركات من الله فى هذه الأرض المقدسة، وغفران الذنوب والآثام التى تلاحق الإنسان فى كل خطواته. وفى الطريق من البيت الحرام الى الفندق لحمل الأمتعة والحقائب والعودة الى الوطن، تثقل القدمان عن المشى، وتتقدم خطوة وتتراجع خطوات أخرى، فالنفس متعلقة بالكعبة والبيت الحرام، ولا تشغل المرء زينات المحلات وعرض بضائعها، لأن الروح تمر فى هذه اللحظات بأسمى آيات القرب من الله ولا يشغلها شاغل سوى العودة وقد غفر الله للنفوس ذنوبها ومعاصيها وآثامها.. ويفيق المرء بعد ذلك على قرب موعد إقلاع الطائرة، ويبدأ فى الانشغال بأمتعته وحملها والتوجه للحاق الطائرة. طواف الوداع للبيت الحرام، حالة روحانية نادرة يعجز القلم عن تدوين ما تشعر به النفس، ولا يملك المرء سوى أن يدعو الله أن يعيد المرء مرة أخرى الى الأراضى المقدسة ليحيا هذه الحالة الشعورية الفريدة من نوعها، ويمتلئ بالهدى والتقى والعفاف.. فاللهم اغفر ذنوبنا واقبل حجنا مبروراً وتقبل سعينا مشكوراً.. آمين يارب العالمين.