لولا أن الغرور طبع بشري لما استطعنا انتقاد أهل السياسة الكبار، ولكان السؤال السباق للنقد: من أنا ومن أنت ومن هو هذا الكاتب أو المتحدّث الغض العمر والتجربة، الذي يمكنه انتقاد وتخطئة سياسي بدأ حياته طياراً أو وزير خارجية في الحرب العالمية الثانية؟ ما يشفع لنا أن التجربة حين تطوي صفحاتها المهمّة يصبح نقدها واقعياً ومتاحاً وربما سهلاً. لكن ما يسهّل الأمر أكثر أن الغرور يجعل أصحابه يخطئون من حيث اعتقدوا أنهم محصّنون وغير متصوّرين أن أحداً يمكنه أن ينغّص مخططاتهم . تحضر هذه المقدمة المعمّمة من تجربة مصر الخاصة مع الولايات المتّحدة التي أوصلها غرورها وجنون عظمتها، رغم الإفلاس، حد التعامل مع المساعدات السنوية لمصر بأسلوب الإهانة . فالولاياتالمتحدة التي قررت أخيراً تعليق معظم المساعدات لمصر، تجسّد بهذا القرار قمة الانتهازية السياسية وذروة العنجهية في التعامل مع دولة عاصر جيلها الأخير الجيل الأول في أمريكا . كان واضحاً خلال انتفاضة 25 يناير ،2011 أن الولاياتالمتحدة متخبّطة في تقييم ما يجري ضد نظام اعتبرته “إسرائيل” ذخراً استراتيجياً منذ أخرج أكبر قطر عربي من دائرة الصراع معها . لا يدور الحديث عن معركة عين جالوت، بل عن حدث ما زال طازجاً، وما زال التعاطي الأمريكي مع تلك الانتفاضة طازجاً، إذ تراوح بين الربت على كتفي النظام الأسبق، والشعور بالخجل أمام الطوفان الشعبي المناهض له وإزاء حقيقة مخيفة تتعلّق بثقة الحلفاء بواشنطن . صحيح أن تفاصيل الأحداث التاريخية الكبرى تتأخر في الظهور والانكشاف، لكن بدا واضحاً، على العموم، أن واشنطن التي بدأ رئيسها الجديد في حينه، باراك أوباما عهده الأول بمغازلة الإسلاميين، على غرار خطاب القاهرة الذي تضمن سبع آيات قرآنية، هيّأت نفسها وبدائلها على أساس مستقبل يأتي بالنظام الذي تفرزه القوة المنظّمة الوحيدة، وهي جماعة الإخوان المسلمين . مع ذلك التغيير الذي كان دوراناً ب 360 درجة، وجدت الولاياتالمتحدة نفسها أمام الدرجة نفسها من التحالف مع القيادة الجديدة، حيث واصل نظام “الإخوان” التزام حماية المصالح الحيوية للولايات المتحدة في مصر، أي ضمان أمن “إسرائيل”، والمرور الآمن (للمصالح وأدوات السيطرة) في قناة السويس، وضمان بقاء الشكل السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي في مصر على حاله . كذلك بدا واضحاً أن انتفاضة30 يونيو/حزيران هذا العام، كانت مفاجئة تماماً للولايات المتحدة، سواء من حيث الزخم، أو من حيث قدرتها على إزاحة النظام الثاني خلال عامين ونصف العام . التخبّط كان بادياً منذ البداية، حتى توصيف الحالة تجنّبته الإدارة الأمريكية، مستخدمة تخريجة “الوقت المبكّر” للحكم على عزل محمد مرسي، إن كان نتاج انتفاضة شعبية أم انقلاباً عسكرياً . كان من نتيجة سياسة الإمساك بالعصا من منتصفها، أن فشلت واشنطن في منع التغيير المعوّم شعبياً على نحو اضطر أوباما للاعتراف به، في حين نجحت في تأجيج المشاعر القومية المصرية منذ اللحظة التي بدأت فيها واشنطن بالتلويح بالمساعدات “عصا وجزرة” . لذلك تميّزت انتفاضة يونيو عن يناير في أن الثانية رفعت الشعار السياسي وهتفت ضد أمريكا أمام سفارتها، لأن المصريين وإن جاعوا لا يساومون على كرامتهم . نقلا عن صحيفة الخليج