يتعلم أي دارس للعلوم السياسية في سنواته الدراسية الأولى أن السياسة تعتمد على الحسابات الدقيقة والرشادة والعقلانية والمنطق، واستنادا إلى ذلك فإنه يمكن وبدرجة كبيرة من المصداقية توقع سلوك الخصم، أو توقع رد فعله، أو توقع تطور ظاهرة سياسية معينة، لكن في بعض الأحيان يحدث غير المألوف وغير المتوقع وتحدث تناقضات غريبة وفي فترة زمنية قصيرة مما يجعل من الظواهر السياسية في حركتها تسبق القدرة على التنظير والتوقع في بعض الحالات مما يعكس عجائب وغرائب السياسة. وقد شهدت مصر في الآونة الأخيرة نماذج لهذه التطورات المتسارعة وغير المتوقعة، والتي تثير الكثير من التساؤلات والتناقضات، ففي خلال فترة تقدر بثلاثة عقود من الزمان كانت المنافسة السياسية والصراع السياسي في مصر يدور بين طرفين هما الحزب الوطني والإخوان المسلمين، وكانت الصورة التي يتم تصديرها للغرب وللعالم الخارجي أن الإخوان هم البديل الوحيد للحزب الوطني وهو ما يبرر التدخل للتأثير على نتيجة الانتخابات خوفا من هذا البديل وهو ما لم يجد رد فعل معاكساً من الولاياتالمتحدة والدول الغربية وهي دول تعتنق الأيديولوجية الليبرالية ومع ذلك لم تجد غضاضة في التعاون والإبقاء على نظام سلطوي طالما يحقق مصالح الولاياتالمتحدة مما يعكس تغليب المصالح على المبادئ المعلنة، ولذلك تم التعامل مع جماعة الإخوان باعتبارها جماعة محظورة. كما عمل الإخوان على إيجاد قنوات اتصال مع نظام الحزب الوطني رغم ما بينهما من تناقضات ورغم كونهم جماعة محظورة من أجل تحقيق مكاسب سياسية تتمثل في فوزهم بعدد من مقاعد البرلمان أو عدم تقديمهم لمرشحين في الدوائر التي يخوض الانتخابات فيها رموز من الحزب الوطني، ولقد بلغ هذ الأمر قمته في انتخابات 2005 حيث تمكن الإخوان من الحصول على 88 مقعدا في البرلمان بنسبة تقترب من 20% من إجمالي مقاعد البرلمان رغم كونهم جماعة محظورة، بينما لم تتمكن أحزاب المعارضة الشرعية أن تحصل سوى على 3% فقط من مقاعد هذا البرلمان مما يعكس جانباً آخر من جوانب الغرابة في السياسة المصرية. وبقيام ثورة 25 يناير تردد الإخوان في البداية في المشاركة في الثورة والتي كان محركها ووقودها الشباب وكان رأيهم في البداية التعقل وعدم تعريض أنفسهم لمجابهة مباشرة مع النظام وبمرور عدة أيام من الثورة وميل الكفة لمصلحة الثوار قرر الإخوان النزول بثقلهم للمشاركة في الثورة، وعقب سقوط مبارك أصبح الإخوان هم الطرف الرئيسي المؤثر على نحو ما حدث في الانتخابات البرلمانية وانتخابات الشورى حيث حصل الإخوان وحلفاؤهم من التيار الديني على أغلبية المقاعد، ثم جاءت قمة هذه التطورات السياسية بفوز مرشح الإخوان في الانتخابات الرئاسية في يونية 2012، وتحولت الجماعة المحظورة إلى جماعة محظوظة معبرة بذلك عن جانب آخر من جوانب الغرابة والعجب في السياسة المصرية وخصوصا أنه قد ارتبط بذلك تراجع في دور شباب الثورة وعدم تمثيلهم تمثيلا مرضيا في المؤسسات السياسية المختلفة التي أعقبت ثورة يناير بل بدأت تنهال سهام النقد والاتهام على الكثير منهم وتم تصوير الأمر كما لو أن ثورة يناير هي ثورة الإخوان وهم الذين خططوا لها ونفذوها، وتم القبض على رموز الحزب الوطني ومحاكمتهم ابتداءً من رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس الوزراء والوزراء ورجال الأعمال في عهده وقيادات الشرطة والحزب الوطني مما يعني وصول الإخوان إلى الحكم ودخول من كانوا في الحكم إلى السجن في تبادل أدوار سياسية غريب. وخرجت حشود الشعب المصري في 30 يونية 2013 للمطالبة بخلع الرئيس الإخواني المنتخب بعد مرور عام من توليه السلطة وهي أكبر حشود تشهدها مصر وربما العالم وتفوق الحشود التي خرجت في ثورة 25 يناير، وتتمثل جوانب الغرابة والعجب في ذلك في قيام الشعب المصري بثورتين متتاليتين في فترة زمنية قصيرة مقدارها عامان والنصف بإسقاط نظامين هما نظام الحزب الوطني ونظام الإخوان وتزداد الأمور غرابة نتيجة لتصوير بعض الأطراف داخليا أو خارجيا لما حدث في مصر باعتباره انقلاباً رغم الحشود الهائلة التي شاركت في اسقاط النظام، كذلك من جوانب العجب والغرابة أن يتم القبض على رموز وقيادات الإخوان وإيداعهم في نفس السجون التي يتم فيها إيداع رموز الحزب الوطني مما يعني الجمع بين النقيضين خلف القضبان، وتصل المفارقة والعجب إلى القمة عندما يتم محاكمة رموز الحزب الوطني ورموز الجماعة في نفس اليوم وفي نفس التوقيت. ويلاحظ أن المفارقات والغرائب السياسية لم تقتصر على المستوى المحلي فقط بل امتدت أيضا إلى المستوى الدولي والمستوى الإقليمي، فالولاياتالمتحدة على سبيل المثال والتي كان لها موقف متشدد تجاه التيارات الدينية عقب الثورة الإيرانية وعقب أحداث سبتمبر ظهرت مؤيدة لموقف الإخوان ومدافعة عن صندوق الانتخابات وأرسلت عددا من أعضاء الكونجرس الأمريكي إلى مصر وربما أوعزت أيضا إلى الاتحاد الأوروبي ببذل مساعيه في هذا الشأن، كما تتجه الولاياتالمتحدة أيضا بالتأييد إلى المعارضة الإسلامية في سوريا، ويزداد الموقف غرابة عندما نلاحظ أن بعض الدول العربية المؤثرة والتي أيدت الحكومة المصرية ضد التيار الإسلامي، هي نفسها تتخذ موقفا معاكسا في الأزمة السورية وتؤيد المعارضة الإسلامية ضد الحكومة السورية. كذلك من المفارقات السياسية أن الحجج التي تسوقها الولاياتالمتحدة للتدخل في سوريا عسكريا والمتمثلة في حماية المدنيين يمكن أن تؤدي إلى العكس تماما من حيث زيادة القتلى والمصابين من المدنيين وزيادة الخراب في سوريا وتوجد أمثلة عديدة تؤكد ذلك من أفغانستان والصومال وليبيا والعراق واليمن وغيرها حيث أدى التدخل العسكري إلى زيادة هائلة في انتهاك حقوق المدنيين بما في ذلك حق الحياة، ويضاف إلى تلك المفارقات ما يتعلق بالجامعة العربية والتي كان الهدف من نشأتها حل القضايا والأزمات العربية في إطار إقليمي عربي وتحقيق الوحدة والتجانس على المستوى العربي وتحولت من الناحية الواقعية إلى مرآة تنعكس عليها الخلافات العربية. حقا إنها السياسة وما تنطوي عليه من عجائب وغرائب.