عمليات الكر والفر الشعبي والقانوني التي تدور الآن في مصر بين الحكومة والإخوان المسلمين تكشف بوضوح شديد أن المنافسة الانتخابية في مصر محصورة بالكامل بين هذين القطبين ، حزب الحكومة والإخوان ، ولذلك جند الحزب الوطني الكثير من قدرات التعبئة والدعاية خاصة في الصحف والمجلات القومية للدعاية لمرشحي الحزب والتصدي لمرشحي "المحظورة" ، وهذا الوجه ربما كان الأكثر سوداوية من وجوه الكارثة التي حلت بمصر في العقود الأخيرة ، عندما تم تفريغ الحياة السياسية من مضمونها ، وسيادة منطق اللعب بأحزاب ورقية لإعطاء "ديكور" ديمقراطي يتجمل به النظام السياسي ظنا منه أنه بهذا "التفريغ" للحياة السياسية وتحويلها إلى لعب كرتونية هشة يكون قد فرض سيطرته المطلقة على مقاليد الأمور ، وهو قصر نظر انتهى به إلى أن يواجه الآن تمردا طائفيا غير مسبوق وكنيسة تتمدد في فراغ سياسي يغري أي قوة منظمة ومحمية خارجيا بالتمدد وانتزاع المزيد من مساحات القوة والسيطرة ، ومن ثم لم يعد عجبا أن تتحول الحياة السياسية في مصر الآن إلى مناطق تجاذب على خلفيات دينية أو طائفية ، سواء مع الإخوان أو مع الكنيسة الأرثوذكسية ، لأنهما عمليا يمثلان الكتل السياسية الحقيقية والوحيدة التي لها أرضية وقدرة على الحشد والضغط السياسي ، وأما أحزاب "الكرتون" فقد انتهى العمر الافتراضي لها الآن كديكور يمكن أن يتجمل به النظام . وأنا أندهش الآن من الضجيج الذي يثيره الإعلام الرسمي والقيادات الحزبية عن خطورة تديين السياسة ، رغم أنهم هم الذين دفعوا البلاد دفعا إلى هذا المزنق ، عندما دمروا أي فعل سياسي جاد ، همشوا الأحزاب وصادروا النقابات وحولوا الجمعيات الأهلية إلى فضاء أمني تحت السيطرة البوليسية الكاملة ، ودمروا أي وجود لأي شخصية يمكن أن يكون لها حضور سياسي معارض أو مستقل أو أن يكون لها حضور شعبي وقبول واسع ، سواء بتشويه السمعة أو الإهانات الإعلامية المتوالية أو ترتيب التهم السخيفة أو إرهابه بمختلف الوسائل من أجل أن يلزم جدران البيت والنادي ، وتم وضع قيادات الأحزاب بالكامل تحت السيطرة السياسية بأكثر من طريق ، أخطرها هو ما تفنن فيه الأمين العام للحزب الوطني الحالي ، بلعبة استئجار مجموعة من العاطلين والانتهازيين برعاية خاصة وخدمات رسمية مجانية لعمل جمعية عمومية وهمية طارئة للحزب تنتهي بتنصيب مجهول زعيما جديدا للحزب وعزل رئيس الحزب الحقيقي ، ثم ترفع الأوراق إلى لجنة شؤون الأحزاب فتقرر تجميد الحزب كله أو اعتماد النسخة الجديدة وطرد قيادات الحزب الأصلي ، وهي التجربة التي تكررت مع أربع أحزاب على الأقل فالتزم الباقون بأصول الأدب في التعامل مع السلطة وحزبها ، وبدأت الأحزاب الباقية تتقوقع على نفسها حتى ظهرت في مصر أغرب السلوكيات الحزبية مثل رفض الأحزاب التوسع في العضوية وحرصها على تضييق عدد أعضاء الحزب وحصرهم في أضيق نطاق ، بدلا من البحث عن الشعبية والتمدد ، خوفا من اللعبة إياها . وأذكر أن أربعة أحزاب مما يسمونها بالأحزاب المعارضة الرئيسية أرادوا أن يتحركوا بمسيرة في وسط البلد ، فعجزوا عن الخروج من باب مقر الاجتماع لمسافة مائة متر فقط ، وعادوا أدراجهم بأوامر أمنية ، كما أذكر أن مرشحا "كارتونيا" لحزب كارتوني لرئاسة الجمهورية ضد الرئيس مبارك في الانتخابات الماضية أعلن أنه سيعطي صوته للرئيس مبارك!! ، وتصل الفجاجة إلى حد أن يقوم الحزب الوطني نفسه بالتلاعب في انتخابات الشورى من أجل إهداء مقاعد لبعض الرموز "الكرتونية" المعارضة لزوم الديكور، وهي نكت وغرائب لا تصدق في أي مكان بالعالم ، لكنها في مصر يعتبرونها دليلا على أزهى عصور الديمقراطية . لذلك كان من الطبيعي أن تكون القوى السياسية الحقيقية الموجودة على أرض الواقع هي القوى الخارجة على هذه الهياكل القانونية المفترضة التي صنعت خصيصا لتشكيل الكيانات الكرتونية وبالتالي ليست مؤهلة لأن تتيح الفرصة لقوى شعبية حقيقية أن تتشكل وتعمل في حماية الدستور . [email protected]