تعيش مصر الآن مرحلة سياسية ليست بالجديدة ..فها هى المرة الثانية خلال عامين فقط يتم المناداة بإسقاط الدستور ليتم إقرار مسودة جديدة، وسط متاهة المواطن المصري بين اللجان المُشكّلة لتلقي المقترحات وبين استثناءات مواد جعلت من المصريين "محلك سر". فما بين دستور "دائم" استظل المصريون به طوال أربعين عامًا مضت، ودستور لم يعبر إلا عن "تفصيل" الجماعة لمواده .. لم يعثر المواطن البسيط على حقوقه كاملة بين متاهة المواد ، ولم يجد لحرياته موقعاً للأعراب بتلك الدساتير! لقد عاش المصريون نكبات وأحداث لم تعجز ممحاة الزمن عن أزالتها ، ومازالت سفينة الوطن تائهة عن مَرسي الحرية الذي لطالما حلم بالوصول إليه أبناء مصر.. فما بين أربعة رؤساء وثلاث دساتير عجز قبطان السفينة عن الرسو قبالة شواطئ الحلم الذي لم يتحقق، ولكن السؤال هو "أين نقطة الفصل؟"..أيكون الفيصل هو الحاكم أم الدستور، أم السنوات التى تركض لتخفي وراءها عجز الإرادة وقهر الشعوب التى ما أرادت يوماً سوي حياة كريمة رأيتها "الديمقراطية". فكل رئيس اعتلى عرش تلك الأمة طرح دستوره ليضع به إطاره الخاص للدولة..تارة جعلها خاضعة لحكمه الديكتاتورى، وتارة زعم كونه الوالى الذي إرادها إسلامية .. ومرات أخرى عجز عن العثور على الإطار.. الأمر الذي يثير الريبة ويضع الدساتير المصرية من دستور 71وحتى الدستور الحالى في حيز المقارنة ؛ ليطرح السؤال الجوهرى " أين هو دستور الحريات من بين دساتير مصر الثلاثة؟.."وهل الدستور الجديد سيحقق الحلم المنتظر؟".. دستور1971 .. هو أول دستور دائم بعد ثورة 1952. تم إقراره في عهد الرئيس محمد أنور السادات بعد استفتاء شعبي عليه..وقد عاش المصريون تحت مظلة هذا الدستور أربعون عاماً من الاستبداد والديكتاتورية المطلقة ، وذلك منذ إقراره وحتى تعطيله بعد ثورة 25يناير ..فقد أعطى هذا الدستور الحق لرئيس الجمهورية بتنصيب نفسه "إلهاً" بإعطائه سلطة مطلقة لا رقيب عليها ولا حسيب. فحتى بداية عصر السادات استمر وضع الدستور كما هو عليه ..مجرد وثيقة ينفرد بإصدارها الحاكم ويسعي من خلالها السيطرة والتحكم الكامل في السلطة، وانعكس ذلك على دستور 71 الذي أصدره السادات طلباً لشرعية دستورية جديدة، إلى جانب الشرعية الثورية التى أولاها له الشعب المصري بعد رحيل عبد الناصر، وقد استمر في هذا الدستور العديد من خصائص دساتير الحقبة الناصرية خاصة:هيمنة السلطة التنفيذية على باقي سلطات الدولة ، وتمتع رئيس الجمهورية بسلطات واسعة. مر دستور السادات والمُسمى ب"الدستور الدائم" بثلاثة تعديلات شهيرة خلال الفترة التى تم العمل به.. ففي 1980 عمد السادات لتعديل الدستور لضمان بقائه في الحكم مدة تالية ،وتوسيع نطاق المادة الثانية من الدستور لتصبح مبادئ الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع؛ وذلك في محاولة لجذب تأييد التيارات الاسلامية في ذلك الوقت. وفي عام 2005 شملت التعديلات الدستورية التى أشرف عليها الرئيس المخلوع حسنى مبارك بتعديل نظام شغل منصب الرئاسة، وتحويله من الاستفتاء الى الانتخاب وتعديل شروط الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، فضلاً عن محاولته بفرض سيطرته واستبداده الديكتاتوري بتعديل المادة77 والخاصة بالسماح للرئيس بالترشح ل"مدة" اخري، فأعلن تعديل تلك المادة لتشمل "مدد اخري" لبقاءه على كرسي العرش. وفي 2006 بعث المخلوع برسالة جديدة للبرلمان ،طلب فيها تعديل 34مادة من مواد الدستور أى "سدس" مواد الدستور تقريباً ، وكان جوهر تلك التعديلات هو إزالة كل ما يختص بمفهوم الاشتراكية ، وحظر أى نشاط سياسي على أساس الدين، فضلاً عن السماح بإحالة الجرائم المتعلقة بالإرهاب إلى القضاء الاستثنائي ، والسماح صراحة بتجاوز الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور بغرض مكافحة الإرهاب دون رقابة قضائية مسبقة.. إن تلك التعديلات السابقة ماهى إلا بداية لخرق حدود الحريات والحقوق الدستورية في صلب الدستور .. وقد جاءت جماعة الاخوان لتعيد وضع دستور لا يعبر إلا عن كيان واحد دون اعتبار للرغبات الشعب وحقوقه في الحرية والعدالة الاجتماعية. فقد مثلت المادة 219 فى دستور الإخوان أول الألغام التي زرعتها الجماعة فى الدستور الذى قاموا بتشكيليه أيام حكم "المعزول" ليناسب تحقيق أهدافها فى المقام الأول، فهذه المادة تنص علي أن "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة".. وقد وصفت هذه المادة فى الدستور ب "الزائدة"حيث أن مصر لم تكن دولة كافرة في ظل الدساتير السابقة التي لم تنص على تلك المادة، وقدوافق عليها الأزهر في دستور 2012 في ظل وطأة الحكم الإسلامي وضغوط التيار السلفي والإخوان ، وهو ما دفع ممثلي التيار المدني للانسحاب من الجمعية التأسيسية للدستور، حيث أثارت هذه المادة حساسية لدى الكثير من الاقباط . وجاءت ايضاً المادة 149 من هذا الدستور البغيض لتفتتح باباً أوسع أمام سلطات رئيس الجمهورية وتعطيه سلطة الافراج عن الارهابيين والقتلة ، فتحرم المصريين من حق العيش بامان بعيدا عن الاختلاط بهؤلاء المتشدقين بالجهاد والقتل ..كما جائت المادة 233 لتعبر عن رغبة هذا التنظيم فى الانتقام من المحكمة الدستورية وأعضائها . وأما عن أكثر المواد التى ثارت الجدل حولها كانت المادة العاشرة من دستور الإخوان التى أعطت الحق لأى جماعة فى السيطرة على كيان الدولة والتدخل فى شئونها وتم بمقتضاها تطبيق حد الحرابة بمدن الصعيد وجاءت مادة هيئة كبار العلماء التي تؤكد علي أخذ راي الهيئة في كل القوانين التي يتم اقرارها حتي تكون مواقفه للشريعه الإسلامية شبيهة إلى حد كبير مبدا ولاية الفقيه كما تم تقليص إمكانية تعديل الدستور لأول مرة في تاريخ مصر. إن محاولات الاخوان فى السيطرة على الدستور المصرى وتطبيعه بالنمط المتأسلم باءت بالفشل بعد ثورة ال30 من يونيو وإسقاط دستورهم "الكستور".. تأتى المحاولات الآن لكتابة وتعديل الدستور لإنتاج واحد يعبر عن الحرية والديمقراطية المصرية من خلال لجنة العشر التى قدمت تعديلاتها لرئيس الجمهورية المؤقت لتناقشها لجنة الخمسين. ولكن مسودة التعديلات الدستورية الجديدة الكثير من الجدل خاصة فى موادها التى تكبت الحريات و تعيد انتاج نظام ولى بعد ثورة 25 من يناير ومن أهم التعديلات التى تناثرت حولها العديد من الآراء كانت التعديل الذى يقرر أنه لا يمكن عزل الرئيس دون موافقه ثلثى مجلس الشعب حتى ولو خرجت مظاهرات تندد بسقوطه وذلك من أجل تقنين ظاهرة جمع توكيلات سحب الثقة من الرئيس على غرار حركة تمرد وذلك يمثل قمعاً للإرادة الشعبية التى شاهدتها ثورة يونيو ..لتكون تلك المادة بمثابة النقطة السوداء في الدستور الجديد إذا ما تم اقرارها .. ومن المواد التى يدور حولها النقاش الآن كانت إلغاء العزل السياسى لأى من القوى الوطنية سواء من نظام "مبارك" التى لفظته ثورة يناير أو "الإخوان "التى تمردت عليهم إرادة الشعب في 30 يونيو، ليعيش الشعب دوامة جديدة من الصراع مع اعضاء الوطنى المنحل أو مع جماعة كفرت معظم المصريين. وعلى الجانب الأخر اشتملت مسودة الدستور على نص يجيز التأميم، وهو جريمة اقتصادية كبرى وباب مفتوح على مصراعيه لإرهاب وهروب المستثمرين،حيث قامت لجنة العشر بحذف المادة 39 من دستور 2012 رغم ما بها من ضمانة تمنع الأجهزة الأمنية من دخول أى مكان دون أمر قضائى مسبب... وهكذا مرت مصر بثلاثة دساتير أختلف حول موادها الشارع المصرى فمنها من قمع الحريات ومنها من زعم عودتها الى عصور الخلافة مرة أخرى ومنها من أعطى المصرى شيئاً من حقوقه متجاهلاً باقى مطالبه فى الحرية والتساؤل الذى يطرح نفسة الان "هل تكون لجنة الخمسين على قدر المسئولية فتعطى لمواطن قام بثورتين حقه الدستورى فى الحرية وأستنشاق هواء الديمقراطية ؟!"