تثير التطورات الجارية في سيناء تآملات حول قيمة الأرض وجغرافيا الشهداء في الثقافة المصرية وفي وقت تبدو فيه هذه الأرض المصرية التي لم تتعب أبدا من القتال ومنازلة العدو مستهدفة من الثقافة الاستعمارية الجديدة واصحاب أفكار الخرائط الجديدة للمنطقة كلها. وواقع الحال ان سيناء تبرهن باستمرار على قيمة الأرض في الثقافة المصرية سواء أثناء الحرب لتحريرها من دنس الغزاة الأجانب أو في النضال لتطهيرها من بؤر الارهاب العميل والمرتبط بقوى الشر الاقليمية والعالمية الراغبة في تهديد سلامة الدولة الوطنية المصرية بكل السبل. والخوف على الدولة شعور ايجابي وهو يرتبط بشدة بقيمة الأرض التي بدت موضع شك في ظل النظام السابق الذي اظهرت ممارساته في سيناء استهانة واضحة لكل ذي عينين بهذه القيمة الغالية ناهيك عن دماء الشهداء الذين قدموا ارواحهم دفاعا عنها. وقد شكل هذا الوضع "حالة انكشاف لأي غطاء كانت تتدثر به الجماعة التي حكمت مصر لمدة عام امام الغالبية الساحقة من المصريين الذين يعرفون ان الأرض هي العرض" ويرفضون ان تكون بلادهم جزءا من مشاريع مشبوهة وخرائط جديدة اعدت في الخارج للمنطقة العربية من اجل مزيد من التقسيم والتشطير والكانتونات الطائفية ومن بينها مايسمى "بمشروع الشرق الأوسط الكبير". وهذا الخوف الحميد أو القلق البناء كان ضمن أهم أسباب ثورة 30 يونيو عندما خرجت جموع المصريين مدفوعة بالقلق على الأرض والوطن والهوية والأمن القومي المصري فيما جاءت تلبية الجيش الوطني لنداءات هذه الجموع الهادرة تحمل بالتأكيد انحيازا لا لبس فيه لقيمة الأرض التي لايمكن لأي وطني مصري أن يفرط فيها من قريب أو بعيد. وكانت القوات المسلحة قد أعلنت أن رجالها في شمال سيناء اشتبكوا مساء أمس الأول "السبت" مع مجموعة ارهابية من بينهم عناصر ممن تلوثت اياديهم بدماء شهداء مصر الأبرار في النقطة الحدودية برفح اثناء افطارهم الرمضاني في الخامس من شهر اغسطس في العام الماضي. وقد دفع المصريون الكثير والكثير من اجل تحرير سيناء واستعادة كامل ترابهم الوطني وبمشاعر قد لايصل لعمقها وحساسيتها اصحاب بعض الطروحات الغربية عن سيناء في راهن اللحظة المشحونة بالمتغيرات والتحديات. ففي طرح مستفيض عن سيناء في دورية "نيويورك ريفيو" تناول نيكولاس بيلهام برؤية انثربولوجية تعبر عن اتجاه غربي مستعد لاغفال حقائق تاريخية هامة لأغراض تدخل في استراتيجيات غربية وتتناول الوطن الوحد بمنظور تقسيمي. وهذه الرؤية تستغل حقيقة التنوع الثقافي للايحاء ظلما بأنها تعبر عن صدام بين ثقافات وتنفخ في نيران فتن مصطنعة على خلفية مآرب شريرة حقا وباتت معلنة في اعادة رسم الخرائط الجيبوليتيكية للمنطقة ككل كما يتجلى في هذا الطرح!. ولعل هذه الرؤية تنبه لطروحات تروج لها بعض مراكز الأبحاث في الغرب حول سيناء وماتتضمنه من "سيناريوهات انفصالية" او تصب في مربع ثقافة التقسيم والانفصال الشعوري بقدر ماينبغي ان تحفز مراكز الأبحاث الوطنية على الوفاء بمسؤولياتها في المقابل لتأسيس ثقافة الانصهار الطبيعي بين مكونات الوطن ودرء مهددات الأمن الوطني المصري. فهناك تركيز واضح في مراكز الابحاث الغربية على مسألة "المدخل الاثني" لتفسير الصراعات في مرحلة مابعد الثورات العربية ومايسمى في علوم السياسة والاجتماع والانثربولوجي "بالمجموعات البشرية التي تنشط خارج اطار الدولة الوطنية" وبصورة قد تتعارض مع وجود الدولة ذاته او بما ينطوي على تهديد جسيم لهذا الوجود. والنظرة العامة لهذا الجهد البحثي الغربى تكشف عن محاولات مستمرة لاستعارة تصنيفات من علوم الاجتماع والانثربولوجي وخبرات تاريخية في سياقات متعددة بعضها خارج المنطقة العربية بغرض توظيفها او الاستفادة منها في صنع سيناريوهات تفيد اصحابها بقدر مايمكن ان تلحق من اضرار بالدولة الوطنية . واذا كانت الأفكار هي الفضاء الرئيس الذي يعطي للظواهر المادية معناها الحقيقي كمحدد للسلوك البشري الفردي او الجمعي واذا كان هناك من يريد توظيف البعد الاثني او التفسير العقائدي المنحرف عن صحيح الدين في حرب شريرة حقا ضد الأمة العربية وفي القلب منها مصر فان الوقت قد حان لصياغة استجابة مصرية شاملة ردا على هذا التحدي الخطير. وقد تكون افضل استجابة مصرية لمثل هذه الطروحات الغربية التي تفصح عن نوايا لايمكن وصفها بالخيرة تحويل الكلمات الى افعال فيما يتعلق "بالتنمية فى سيناء ". ومع التسليم بأن استتباب الأمن يشكل البداية الحقيقية لأى تنمية فى سيناء" يتوجب القول بأن القضية معقدة لأن هناك من المحللين من يرى ان التنمية هى التى تؤدى للأمن ولعل الأنسب هو اداء المهمتين الكبيرتين "بالتزامن الحساس". مامن شك ان في ان سيناء بحاجة لابداع ثقافي ثوري مصري في البناء والتشييد والأمن وحماية الدولة الوطنية ودرء مخاطر الارهاب استنادا على فكر وطني منفتح بعيدا عن اليأس المثبط وعن الاسراف فى التفاؤل المجنح بقدر ماهو جدير بأن يفتح عصرا جديدا مجيدا فى هذا الجزء الغالي من ارض مصر". وسيناء التى تثير اليوم نقاشات متعددة-تقدم اجابة مركزية للمعضلة المتمثلة في تجاوز عامل التزايد السكانى لامكانات الأرض فى الوادى حتى "وصل الطفح السكانى الى مداه" وفي هذا السياق فان سيناء تدخل بقوة كرقم بالغ الأهمية في معادلة المستقبل المصري وكتابة الكلمة الحاسمة في قادم الأيام لدولة هي اقدم واعرق دولة فى الجغرافيا السياسية للعالم. ورغم ضجيج العبارة وصخب الكلام احيانا بشأن سيناء فى راهن المرحلة فان الأعمال الثقافية المصرية عن تداعيات المكان تكاد تكون غير محسوسة او انها غابت او غيبت خلافا لواقع الحال فى الثقافة الغربية حيث المكان موضع بحث دائم وجدل خلاق وافكار مبتكرة وقد توغل فى الماضى لكن عينها على المستقبل. واذا كان المثقف في احد تعريفاته هو"الانسان الذى يتجاوز دائرة ذاته والقادر على ان يجعل مشاكل الآخرين هموما شخصية له..هو ضمير عصره وسابق لعصره فى ادراك الخطر المستقبلى والحلم بالمستقبل..يتوقع ويتنبأ..كلى شمولى الرؤية لايضيع فى التفاصيل وصاحب نبؤة" فان المثقف المصرى مدعو لأن يقدم الكثير ويبدع الكثير من الحلول للكثير من التحديات في سيناء. ان الثورة الشعبية المصرية قامت لاعادة بناء الدولة الوطنية بصورة افضل واكثر قوة بآليات ديمقراطية حقيقية لا هدم الدولة أو تهديد سلامتها وتشطير المجتمع أو ترويع المواطنين "بأوهام الدولة الموازية"..ومن هنا فان سيناء حاضرة بقوة في اسئلة الثورة والوجود والمصير..ستسقط كل سيناريوهات الشر في سيناء وستنبت الزهور ليهتف كل محب لهذا الوطن.