إن محاولات أخونة الدولة والسيطرة على مفاصلها لم تفزع المثقفين بالقدر الذى أثارهم عند أخونة وزارة الثقافة وبالتحديد دار الكتب والوثائق التى تعد ذاكرة الوطن وأرشيف تاريخ أى أمة وإرثها لأجيالها بما فيه من انتصار وانكسار أو نهضة وفساد، كما أن اختفاء الوثائق المصرية وعدم وجود آليات وقوانين لحفظها والاطلاع عليها يدفع الباحثين للجوء إلى الوثائق الغربية، وهو ما يؤدي إلى كتابة التاريخ بصبغة غربية. لقد عادت طابا إلى مصر بعد اللجوء للتحكيم وفقاً لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وأثبتت الخرائط التاريخية التي قدمتها مصر استقرار الحدود منذ 5 آلاف عام، وهذه الحدود نفسها هي التي أقرتها الدولة العثمانية وبريطانيا عام 1906. وبعد العديد من الجهود الدبلوماسية وبعد أن قدمت مصر جميع الوثائق التي أثبتت أن طابا مصرية، ومن بينها وثائق إسرائيلية، أصدر القاضي السويدي «جونار لاجرجين» رئيس هيئة التحكيم الدولي في جنيف حكمه التاريخي والذي نص على أن طابا مصرية ليتم رفع العلم المصري فوق طابا في 19 مارس 1989 وتعود شبه جزيرة سيناء بالكامل إلى مصر. ترى ماذا لو اختفت وثائق ترسيم الحدود بين مصر والسودان وتم اللجوء للتحكيم الدولى حول مشكلة حلايب وشلاتين؟ الواقع يشير إلى أن الوثائق في مصر تعاني من مأزق حقيقى، فعلى الرغم من وجود دار للوثائق القومية من المفترض أن تكون مقراً لجميع الوثائق المصرية، إلا أن معظم ملفات الوثائق المتعلقة بحوادث تاريخية مهمة غائبة. فهل نملك نحن وحدة أرشيفية متكاملة تحكي تفاصيل خلال العقود الماضية؟.. فأين المكاتبات الرسمية التي تكشف لنا أسرار الأنظمة التي حكمت هذه البلاد على مدار قرن كامل؟.. فهل نحن نمتلك مقراً لوثائق عصر عبدالناصر، والعصر الملكي الذي انتهى في عام 1953، وأين وثائق بناء السد العالي، بالإضافة إلى وثائق ملف النيل المهم، ووثائق وقناة السويس؟ كذلك وثائق حروب عبدالناصر التي ستجيب لنا عن صاحب قرار النكسة، وأين وثائق الوحدة مع سوريا 1958 حتى الانفصال 1961، وماذا جرى في حرب اليمن، ولماذا انحاز السادات لمشروع السلام بعد انتصار أكتوبر؟.. وأين الوثائق التي تثبت فساد مبارك وأعوانه التى ربما كان اختفاؤها سبباً فى عدم محاكمتهم بشكل جاد حتى الآن؟.. وأين كل ما يخص السياسة المصرية الخارجية والداخلية، خاصة العلاقات المصرية الأمريكية والإسرائيلية؟ إن ضياع الوثائق الخاصة بثورة 1952 كوثائق الحركة الشيوعية أو الوثائق الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين قبل الثورة يعني غياب التاريخ الحقيقي ويشكل مشكلة كبيرة لأي مؤرخ، لأن للوثيقة أهمية تفوق غيرها من الموارد التاريخية. وفى تصريح قديم أكد محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق عندما كان رئيسا لدار الكتب والوثائق القومية، أن دار الوثائق طالبت، في فترة رئاسته، بوثائق يوليو مرارا من جميع الجهات الحكومية في مصر ولكنها لم تلق جواباً.. وقال أيضاً: إن الدار لا تحظى بالعناية اللازمة على جميع المستويات كلها، فجهات الإدارة المختلفة بدءاً من وزارة الأوقاف مروراً برئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع والداخلية وكل الجهات المعنية بالوثائق ولديها ذاكرة مصر القومية خصوصا منذ عام 1952 للأسف لم تسلم هذه الوثائق، ولم تقدم تعريفا بما هو مودع لديها من وثائق. وأكد «عرب» أنه في غيبة الوثائق الرسمية للدولة يضطر المؤرخون والباحثون الشباب إلى الاستعانة بالمصادر الأجنبية ويكتبون عن تاريخ مصر من الأرشيف الإسرائيلي والفرنسي والأمريكي. وعلق صابر عرب قائلاً: «لا أعرف ما المحاذير التي تحول دون الإفراج عن وثائق ثورة يوليو وعن وثائق وزارة الداخلية في النصف الأول من القرن العشرين، فلدى هذه الوزارة ما يسمى بتقارير العمد والمشايخ وأخشى أن تكون دمرت لأنها مهمة جداً في عام 1954 أو خلال حرب 1956 أو نكسة يونيو، حتى حرب 1973 لا نعرف ما قصتها وما أسرارها ولا نعرف أيضا أين وثائق السد العالي». كما اعترف «عرب» باختفاء 80 وثيقة من وثائق الحجاز الأثرية المهمة من دار الكتب والوثائق. وقال «عرب» أمام لجنة الثقافة والإعلام في مجلس الشعب: إن النيابة العامة قد قررت حفظ التحقيق في البلاغ المقدم عن اختفاء هذه الوثائق بعد أن شكلت لجنة من المتخصصين للتحقيق في هذه الواقعة نتيجة عدم وجود أي مرجعية يمكن الاستناد إليها في هذه الوثائق. ووجه رئيس دار الكتب انتقادات حادة إلي الدار وحال الوثائق بها قبل توليه المسئولية عام 2000.. وقال: إن الوثائق المهمة كانت مكدسة علي الأرض وتعلو إلي سقف حجرات المبني ومربوطة بدوبارة وفي مخازن سيئة للغاية. وكشف أن نسبة ما كان مدوناً ومفهرساً منها لا يزيد علي 10% فقط، موضحاً أنه تم تشكيل لجنة علي الفور لمراجعة هذه الوثائق وفهرستها وإعدادها للاطلاع للباحثين. وفى عهد الدكتور عماد أبوغازى وزير الثقافة تم التنسيق مع اللواء منصور العيسوى وزير الداخلية بشأن وثائق أمن الدولة واتفقوا على ان تتسلم دار الوثائق من وزارة الداخلية وثائق جهاز أمن الدولة الخاصة بالبوليس السياسى بداية من إنشائه عام 1913 وذلك لإتاحتها للباحثين فى العلوم الاجتماعية وغيرهم من المتخصصين فى المجالات البحثية المختلفة بعد فهرستها وأرشفتها بمعرفة لجان خاصة بالدار مع مراعاة السرية على الوثائق ذات الطبيعة الخاصة. ولكن لا نعرف إذا كان قد تم تسليم هذه الوثائق أم لا؟ وأكد خبراء أن حادثة اختفاء الوثائق من دار الكتب لم تكن الأولى نظراً لوجود أخطاء وسلبيات كثيرة في نظام التسجيل والأرشفة للوثائق والمخطوطات، ففي الفترة التي تلت عام 1952 اختفى عدد كبير من المخطوطات التي تخص فترات الحكم المملوكي والعثماني لمصر وأسرة محمد علي, كما اختفت أيضا ثمانية مجلدات كبيرة من مكتب الرئيس جمال عبدالناصر تضم وثائق تحتوي على أحداث مهمة في التاريخ المصري. وقد كشفت حادثة القبض على أحد تجار الآثار بمنطقة الهرم أثناء قيامه بمحاولة بيع مخطوط عبري يعود تاريخه إلى 250 عاما ومدون عليه «نصوص توراتية» أن هناك سوقا لبيع المخطوطات والوثائق في مصر لها تجارها المحترفون, في صورة مصغرة من حركة بيع وتهريب الآثار! وفى 16 مارس 2012 أحبطت سلطات الجمارك، محاولة تهريب كمية كبيرة من المخطوطات الأثرية النادرة داخل طرد كتب، حيث حاول قطريون بمساعدة مصريين، تهريبها عبر البريد السريع إلى قطر، لصالح بعض الشخصيات القطرية لعرضها بالمتحف الوطني هناك. وتبين أن المضبوطات خاضعة لقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 ، كما تبين أن الطرد يحتوي علي عدد من الفرمانات العثمانية، وتذكرة رخصة تشغيل حمار بنمرة 461، وبعض العملات الورقية والمعدنية النادرة، وبعض الصور النادرة لبعض المساجد الأثرية أثناء إنشائها باللون الأبيض والأسود، وجوازات سفر قديمة، وأخيرا تذكرة عدم دخول العسكرية لسنة 1285، ويحتوي علي عدد كبير من شهادات المرحلة الابتدائية، الصادرة في الأعوام 1905 و1903 و1899، وأيضا جريدة الوقائع المصرية في عام 1881. فى 28 أكتوير 2012 أى بعد ثورة يناير أحبطت قوات الأمن المصرية عملية تهريب نحو13 طردا وزنها 2.5 طن من الوثائق والمستندات المتعلقة باليهود كانت في طريقها إلى «إسرائيل» عبر الأردن، فيما كشفت مصادر أمنية عن وقوف جهاز «الموساد» وراء العملية. ورجحت التحقيقات أن يكون الهدف من التهريب استخدام تلك الوثائق ضد القاهرة في القضية التي أقامتها تل أبيب، لاسترداد أملاك اليهود الذين هاجروا إلى «إسرائيل» بعد ثورة 23 يوليو 1952. كما رجحت مصادر أن تكون تلك الوثائق سُرقت من المجمع العلمي الذي تعرض لحرق أثناء «أحداث مجلس الوزراء»، التي وقعت في 16 ديسمبر 2011، في ظل حكومة كمال الجنزوري. وأشارت أصابع الاتهام حينئذ إلى تورط مسؤولين بوزارة الآثار، ورجال أعمال يعملون في مجال السياحة وتجارة التحف والأنتيكات، وبعضهم ينتمي إلى الحزب الوطني المنحل، الذي كان يسيطر على السلطة في مصر. وكشفت التحقيقات أن عملية جمع الوثائق وترتيبها من أجل التهريب بدأ التخطيط لها قبل عام أو أكثر، وقادتها سيدة يهودية تحمل الجنسية الفرنسية بالتمويل، وأن الجناة انتهزوا فرصة حرق المتحف للحصول على أكبر قدر من تلك الوثائق. وتبين أن العملية كانت تتم لحساب رجل أعمال يهودي لبناني، يحمل الجنسية الفرنسية أيضاً، زعم أنه من أصل مصري، وآخر من الأردن، وكان اللبناني يزعم أنه يسعى لجمع وثائق تخص أجداده المصريين، ورجحت المصادر أن يكون هذا الرجل بالإضافة إلى السيدة الفرنسية يرتبطون بعلاقة مع جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد). وتضم الوثائق عقود ملكية لمحال تجارية وبنوك ومؤسسات تجارية أسسها يهود في مصر بعضها يعود إلى العام 1863، ومنها: صيدناوي، التي أسسها الأخوان سليم وسمعان صيدناوي، و»شملا» التي أسسها اليهودي الفرنسي كيلمان شملا، شيكوريل، التي أسسها مورينو شيكوريل، جاتينيو التي أسسها اليهودي المصري موريس جاتنيو، وهانو التي أسسها اليهودي المصري عدس، بالإضافة إلى محال وشركات، بنزايون، عدس وريفولي، وعقود ملكية وحجج تعود إلى العام 1963، إبان حكم الخديو إسماعيل، الذي افتتح في عهده قناة قناة السويس، ومنها عقود ملكية الأرض المقام عليها حالياً فندق ماريوت بمنطقة الزمالك، وهذه العقود باسم يهودي سوري يدعي ميشيل لطف الله. هذا فضلاً عن وثائق تتعلق بأملاك اليهود في حارة اليهود الشهيرة بوسط القاهرة. إن حرق المجمع العلمى مازال يمثل لغزاً وما بين تصريحات العريان حول أملاك اليهود وحادث تهريب أطنان الوثائق علينا أن نتوقف قليلاً ونتأمل الموقف، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ما ذكره الدكتور ثروت الخرباوي، القيادي المنشق عن جماعة الإخوان المسلمين، من أن الهدف من حرق المجمع العلمي كان مسح كافة الوثائق المتعلقة ببيع اليهود لأملاكهم في مصر، بعدما جمعت من الشهر العقاري ووضعت في المجمع العلمي. مطلوب قانون جديد للحفاظ على وثائق الدولة ذات الطابع السري لتأمينها والحفاظ عليها من السرقة والتلف وتشديد العقوبات على من يقوم بنشر مضمون تلك الوثائق، مطلوب توحيد الجهة المسئولة عن حفظ جميع وثائق الدولة، وهي دار الكتب، ومطلوب تشديد العقوبات وتوفير الردع المناسب للحفاظ على وثائق الدولة وتراثها. إن الوثيقة ثروة قومية ويتم اعتبارها أثرا إذا انقضى عليها مائة عام, ففي انجلترا يوجد نظام أرشيفي لجميع وثائق الدولة وتسن قوانين لاتاحة فرص الاطلاع عليها بما لا يضر بالوثيقة، ونجد هناك جميع الأوراق الموجودة في جميع السفارات البريطانية في العالم حتى الرسائل الخاصة بين القنصل البريطاني في مصر ووالدته في فترات الاحتلال، وهذا المكان يدر ثروة للحكومة البريطانية بسبب توافد الباحثين عليه.