تفننت الأنظمة العربية فى الدوران حول الإرادة الشعبية بكثير من الحيل، وكان من بينها أن أيقن بعض القادة أن فكرة «الدولة المدنية» تتعارض مع الرغبة فى البقاء والتوريث، فكان أن ارتد بالدولة إلى عدة قرون مضت كانت فيها العشيرة والقبيلة هى الصيغة المتعارف عليها للمجتمعات، وفيها يجد الحاكم نفسه مستندًا إلى عشيرته وأهله، يدفعون عنه ما يكره من طموحات بقية شعبه، وقد يحدث تقسيم الشعب وفق أسس جغرافية أو دينية...إلخ، وفى كلٍ دمار للمجتمع. من هنا فإن الاستقطاب الطائفى الذى تشهده الكثير من المجتمعات الإسلامية، بات من دواعى تهميش المصالح الوطنية لحساب الانقسام الطائفى ما بين شيعة وسُنة، ولا شك أن ذلك ما كان ليتحقق إلا فى غياب مفهوم الدولة المدنية الحديثة عن المنطقة العربية. فقد عانت الكثير من الدول العربية جراء تهميش بعض الفئات لصالح فئات أخرى فى المجتمع، ولعل أسوأ أنواع التهميش ما بُنى على أساس ديني، بل طائفى داخل الدين الواحد، تُكفّر فيه كل طائفة الأخرى، وتسعى لإقصائها بعيدًا عن قضايا الوطن، فى حين أن الدولة المدنية معنية بالأساس بحماية كل فرد فى المجتمع، والمساواة بين أفراد المجتمع فى الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الدين والقومية والفكر. وتؤكد الكثير من التجارب أن الديمقراطية والدولة المدنية، أمران متلازمان إلى أقصى درجة، فلا ديمقراطية فى غياب الدولة المدنية، بما تكفله الأخيرة من سيادة ثقافة السلام والتسامح وقبول الآخر، فرغم التقدم النوعى اللبنانى على طريق الديمقراطية، حتى عُدت أول ديمقراطية فى المشرق العربي، إلا أن المجتمع اللبنانى كان الأكثر معاناة من ويلات الحرب الأهلية، حتى باتت صراعاته السياسية مُسلحة؛ ذلك أن النظام السياسى اللبنانى مؤسس وفق أسس طائفية. ولا يتخذ الوضع فى سوريا بُعدًا مُغايرًا عن غيره من المجتمعات التى تعانى من الصراع الطائفى فى المنطقة، نظام حاكم لا يمثل شعبه تمثيلًا حقيقيًا، بمعنى آخر «الشعب تحكمه أقليته»، ففى سوريا أغلبية سُنية، نحو 80% من الشعب، مقابل نحو 10% من العلويين، وهم من الشيعة، من بينهم النظام الحاكم، ومنهم عائلة الأسد، بجانب 5% فقط من المسيحيين، بعد أن هاجر كثير منهم. وقد نتج عن سيطرة الطائفة العلوية، أن أصبحت «العلوية» تعريفًا مُفضلًا يكتسب الفرد بموجبه الكثير من الحقوق، ويتخلص من أعباء واجبات أخرى، وهو ما يتنافى ومبدأ المواطنة، ذلك المبدأ الأساسى فى الدولة المدنية، ويقضى بأن الفرد لا يُعرف بدينه أو طائفته الدينية، أو بمهنته، أو بماله، أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفًا قانونيًا اجتماعيًا بأنه «مواطن»، فهو عضو فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات، متساويًا فى ذلك مع المواطنين كافة، وفى ذلك ترسيخ للانتماء الوطني، على حساب الانتماء الطائفي. من هنا كان التحالف بين سوريا وإيران أمرًا منطقيًا، تمامًا مثلما أصبح الشقاق فى المجتمع السورى مؤسسًا، وبات جليًا أن الخطورة تكمن فى وجود طرف سُنى يتمثل فى المعارضة السورية التابعة للأغلبية السورية السُنية، ونظام بشار الحاكم، المدعوم من إيران وحزب الله، كطرف شيعي. وعلى مأخذ الجد، ترقب العديد من الدراسات تصاعد عمليات الاستقطاب الطائفي، ومنه تستشرف اندلاع حروب أهلية واسعة النطاق، حال عدم تحقيق الدولة المدنية فى منطقة الشرق الأوسط، وربما تجد هذه الدراسات داعمًا لها فيما ذكرته بعض التقارير عن مشاركة مقاتلين سلفيين، من خارج سوريا، فى القتال إلى جانب المعارضة السورية، فى حين تم رصد إدانة شديدة خرجت من ساسة لبنان من السُنة لمشاركة حزب الله فى القتال إلى جانب قوات النظام السوري، وبينما وزعت الحلوى فى بعض المناطق الشيعية فى لبنان بعد سيطرة قوات النظام السورى ورجال حزب الله على مدينة القُصير السورية مؤخرًا، احتفلت بذلك مجموعة شيعية صغيرة فى البحرين! «الوفد»