الخلفية الذهنية عن النظام الانتخابي لدينا في مصر شديدة التشوش والخلط... أنفقت مصر المرحلة شبه الليبرالية في نظام الفردي.. وكان للوفد ومرشحيه أسبقية الفوز بأغلبية المقاعد.. وكان الوفد يمثل الحركة الوطنية في تيارها العام وكانت له أغلبية عاصفة بفضل ظروف نشأته في أعقاب الحرب العالمية الأولي وتفجر قضايا الاستقلال السياسي والاقتصادي... وكان لزعيمه سعد زغلول أكبر الوقع والتأثير في قلوب المصريين الفلاحين والعمال والطبقة الوسطي الناشئة... وانتشرت مقولة لو رشح الوفد حجراً لانتخباه. وعلي أثره كان لزعامة مصطفي النحاس نفس التأثير بغض النظر عن تغير المناخات السياسية وظهور جماعات وقوي سياسية نالت أجزاء من جماهيرية الوفد... ولكن ظلت الأغلبية الجماهيرية في كتلتها العظمى متجهة لمرشحي الوفد. أثار خصوم الوفد العديد من الطعون علي النظام الفردي.. في مقدمتها إهمال النسبة التمثيلية للخاسرين في الانتخابات... بمعني أن الفائز بأكثر من نصف أصوات الحضور من الناخبين في الانتخاب الفردي يحصد المقعد بينما تتبدد الأصوات التي يحصل عليها الخاسر حتي ولو وصلت إلي 40٪ إلي لا شيء... ولا تمثل في البرلمان... فكان الحديث عن القائمة النسبية وقدرتها علي التعبير والتمثيل لكل القوي السياسية الموجودة علي الساحة... وذلك بالطبع صحيح وكذا كانت هناك ملاحظات حول تقسيم الدوائر فضلاً عن عدم تصويت المرأة. جاءت مرحلة ما بعد 1952 وأجري عبدالناصر أول انتخابات برلمانية طبقاً للنظام الفردي وطبقاً لنفس تقسيم الدوائر السائد وكانت تمثل بنائب واحد... وكانت هناك فلاتر أو مرشحات تحدد من يقبل ترشحه ومن لا يقبل... في إطار فكرة إفساد الحياة السياسية قبل 52 والمحافظة علي انجازات الثورة وهذا ما تم ويتم في ايران منذ ثورة الخميني... فكان المرشحون أصلاً مختارين طبقاً لفرازة النظام أما قيد الناخبين فقد كان متخاذلاً وغير حقيقي ولا يعبر عن القاعدة الناخبة... في أعقاب دستور 64 المؤقت أصبحت الدوائر الانتخابية تمثل بنائبين فئات وعمال أو فلاح علي أثر التطبيق الاشتراكي في ظاهرة فريدة أسىء استخدامها واستغلالها مما كان له أسوأ الاثار علي النظام الفردي وعلي ذهن المواطن في نفوره من المشاركة... وتم تعديل الدوائر القديمة وإضافة دوائر جديدة دون محددات فنية أو اجتماعية أو احصائية سوي ما هو أقرب لتعداد الناخبين ولم يكن هذا التعداد حقيقياً أو جدياً.. ودون مساواة بين الدوائر أو تدقيق!. ظلت مصر سائرة علي هذا التقسيم للدوائر ونفس النظام الفردي طيلة حقبة السادات وأصبح هناك خلل واضح فى تمثيل القاعدة الناخبة، لأن الناخب كان يمارس حقه طبقاً لنظام البطاقة الحمراء التى تسلم له من القسم التابع له طبقاً لطلب يقوم به... وهكذا تخلف أكثر من نصف من لهم حق التصويت عن قيد أنفسهم.. ولم تحرص الإدارة علي قيدهم علي الاطلاق... وانهارت مصداقية الاستفتاءات والانتخابات في مصر في أعقاب 52 طبقاً لنتائج الخمس تسعات في الاستفتاء وفوز مرشحي النظام في الانتخابات أي ان النتائج المعلنة كانت مطابقة دائماً لرغبة السلطة التي تديرها... واستقر في وعي الناس رفض شديد لفكرة المشاركة لعدم جدواها أو جديتها. عندما تم الإشراف القضائي علي انتخابات 2000، 2005 كانت الاعتداءات السافرة تتم خارج نطاق الحجرة المقيم فيها القاضي وتم استخدام البلطجية في ارهاب الناخبين وحجبهم وارتفعت نسب القتلي والجرحي وفي 2005 تبادل بلطجية الوطني وبلطجية الإخوان الصراع في المراحل الثلاث للانتخاب طبقاً لتمثيل الأول للسلطة وامتلاك الثاني لقدرات مالية فائقة تساعدهم علي جلب واستئجار البلطجية ولعل نفس تلك الاساليب هي التي استخدمت في حجب الناخبين في انتخابات 2011 واستفتاء الدستور لخبرة الاخوان العملية في استخدامها واتساقها ومفاهيمهم الشمولية والتسلطية في ظل اختفاء شفافية المراقبة المالية.. وفي انتخابات القائمة التي دارت في انتخابات 87،84 لم يراع تقسيم الدوائر مزايا نظام القائمة في التعبير عن الكتل الجماهيرية بما ينجح في التعبير التمثيلي من القوي المختلفة فجاءت الدوائر الصغيرة عن المطلوب للقائمة وقسمت مصر إلي 48 دائرة بالقائمة دون اكتراث بمحددات جغرافية أو ارتباط المصالح الاجتماعية والاقتصادية.. إلخ. سقط نظام الانتخاب الفردي طبقاً لتدخلات النظام البائد المذكور فضلاً عن عيوب المصاحبة له من تكريس للقبلية وسلطة المال والبلطجة ولكن الحقيقة أن النظام الفردي مطبق في انجلترا أم الديمقراطيات ويمارس آليته في نجاح النظام علي تجديد نفسه وإصلاح عيوبه.. فالنظام الفردي لم يتم تطبيقه في مصر طبقاً لحريات منفتحة وتقسيم دوائر عادل ونزاهة وشفافية انتخابية.. فهو إن طبق في تلك المناخات أفرز لنا القيادات الجماهيرية ذات الرسالة ونقح الحياة الحزبية بدفعها للنماذج المبشرة برسالة الحزب.. فالانتخاب الفردي لا يعبر عن الفرد فحسب ولكن عن الرسالة التي يحملها فإذا كانت غير صادقة ومعبرة انصرفت عنها الجماهير.. أما في نظام القائمة فلا شك أنه يمنح الادارة المركزية للحزب والعلاقات الحزبية الداخلية المقام الأول في الاختيار مما يدفع للمزيد من التفتت الحزبي وظهور العديد من القوائم والاحزاب المنشقة وتصبح للاحزاب الصغيرة الكلمة العليا في ترجيح التحالفات الحاكمة وتصبح هي صانعة القرار كما يتجلي هذا في ايطاليا وبلجيكا واسرائيل.. ولا شك أن مناخات الحريات المفتوحة في مصر مازال مبكراً وآليات الرقابة والشفافية متراخية وغير جادة بفعل المجلس العسكري والاخوان.. فضلاً عن التشكيك في نزاهة الجهات المساعدة في الاشراف علي الانتخابات من وزارات العدل والحكم المحلي والتعليم واختيار عناصر فاعلة لمصالح السلطة التي تجري الانتخاب.. مما يجعل للمال والانفاق غير المراقب وفقدان الشفافية عوامل مهددة لسلامة الانتخاب. التقسيمات السابقة للدوائر الانتخابية كانت طبقاً لأعداد الناخبين غير الحقيقية.. ولم يكن وضع تقسيم الدوائر معبراً عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية المشتركة للدوائر الفردية الصغيرة.. وكذا بالنسبة لدوائر القوائم.. ولم تفكر الجهات البحثية أبدا في تقسيم دوائر مصر الفردية أو القائمة طبقاً لمعايير انتخابية واجتماعية واحصائية عادلة.. وهذا الفقر البحثي نتاج طبيعي لسنوات الشمولية العجاف. وجاءت ثورة يناير واستبشر الناس خيراً بحوار مجتمعي واسع حول النظام الانتخابي الأمثل وتقسيم الدوائر العادل.. ولكن المجلس العسكري وجماعة الاخوان احتالا علي الوطن وقدما نظاماً انتخابياً مشوهاً يجمع بين النظامين وتقسيم دوائر سيىء مأخوذ من تقسيم 1990 وزاد الإخوان الطين بلة فيحاولون الآن تمرير تقسيم دوائر أكثر تشوها طبقاً لحساباتهم الانتخابية حتي انهم جمعوا الشرابية وعابدين في دائرة القائمة وفصلوا بين الخليفة والبساتين في أخري في مهازل واضحة لحساباتهم الانتخابية الصغيرة.. وها هي الثورة تقوم ولا يطبق عندنا سوي نظام انتخابي مشوه جمع بين الفردي والقائمة ليقدم من خلاله كل سلبيات الفردي عندما جعل الدوائر الفردية غاية في الكبر وجمع كل سلبيات نظام القائمة بتصغيره دوائر القائمة الكبيرة أصلاً.. مصر الثورة بحاجة لنقاش واسع وحوار عام يشتري فيه كافة أطياف وقوي المجتمع لصناعة نظام انتخابي ناجح وتقسيم دوائر عادل لنحقق ما تطلعت له مصر وشعبها عندما جادت بدماء الأبناء من أجل مصر الحرة المستقلة المتسامحة.