يصب أحد روافد شارع بورسعيد الممتد بحى السيدة زينب العتيق فى بركة الفيل المطلة على مستشفى الحوض المرصود ليقودك إلى حارة سكة البرج حيث تتدلى فوانيس رمضان من نوع «فاروق» على واجهة أحد الدكاكين المتداعية لتفصح عن مهنة صاحبه دون مواربة. تصفعك رائحة الطلاء المنبعثة من ألواح الزجاج المطلى بالأحمر الزاهى والمتراصة على طاولة بسيطة، تتوسط المكان وتشغل الحيز الأكبر منه، تتلألأ أسفل انعكاس ضوء خافت يصدر من إحدى الزوايا، دكان دون واجهة تكشف هوية مالكه لكنه يشى بشهرة «عم عاطف سلامة» وابنه الواسعة. يفتح الدكان على دهليز صغير، كان فيما مضى مدخل عقار يضم طابقين قبل أن تحتله ألواح الزجاج المشقوق وإطارات القصدير، يفضى المكان عن يمينه إلى حجرة صغيرة تآكلت ألوان جدرانها وأنشبت الرطوبة براثنها فيها. عائلة عم عاطف.. تعاقب أجيال من صانعى الجمال. تنفتح بوابات الزمن عن مصرعيها على غرفة بالحى القديم يقبع فيها 3 رجال من أجيال متعاقبة خلف طاولات خشبية تتوسطها مواقد بدائية، يعكف كل منهم على إنجاز مهمته قبل أن يسلمها للآخر لتكتمل أحجية الجمال فى شكل فانوس صاج من الزجاج المزرقش. صناعة الفانوس بين «التوضيب» و«التقفيص» كالخياط الماهر يطوع عم عاطف مراس الصفيح بمهارة فيصبح لينا كالعجين بين يديه، «يوضبه» على «التناية» ليناسب أشكال الزجاج التى تزين جنبات الفانوس ثم تأتى مرحلة «الصندقة» ويتولى فيها عم أحمد، شقيق والد عم عاطف، وبيبو، ابن الأخير، «تعشيق» زوايا الزجاج بالصفيح تليه عملية «التقفيص» بلضم قطع الزجاج المزجى بالصفيح كلوحة تاريخية تكشف أسرار روعة الصناعة المصرية قبل أن يحول عم عاطف القطع إلى أحجبة لتجميع أجزاء الفانوس وربطها معاً بالقصدير المذاب على النيران المتأججة أمامه. الفانوس المصرى.. لكل اسم حكاية تضرب أنواع الفوانيس بجذورها فى التاريخ المصرى وتؤرخ لحنكة الصانع المصرى الذى وثق كل مناسبة وحدث جلل مر بمصر فى هيئة فانوس؛ الفاروق، ظهر احتفاء بولادة آخر ملوك مصر، وفانوس عبدالعزيز، جاء توثيقاً لزيارة ملك السعودية الراحل لمصر فى الأربعينيات، أما العرق والدلاية فأشكال رمزية، فيما كتب الفانوس النصر سطراً جديداً من قصة انتصار حرب أكتوبر على زجاجه، وأتى فانوس الراديو ليحتفل بميلاد الإذاعة المصرية آنذاك، وارتفع فانوس المركبة ليزين الشوارع والحوارى تتويجاً لتأميم قناة السويس المصرية. الفانوس تحت مطرقة ارتفاع الأسعار يتحايل عم عاطف على شح الزجاج ونقص الخامات بالاستعانة ببقايا ألواح زجاج قديمة تراكمت لديه، يهذبها ويعيد استخدامها، سواء على هيئتها العادية أو بعد الطباعة عليها وزرقشتها بالأحاديث والتمائم المرتبطة بالفانوس، صنعة تكالبت عليها التحديات هذا العام، فسعر الفونيا المطهرة ارتفع من 50 جنيهاً للكيلو إلى الضعف، وكذلك القصدير والزجاج لتضاعف من قيمة تكلفة الفانوس الواحد الذى وصل إلى 300 جنيه للواحد.