ينكشف الغطاء يوماً بعد يوم عن أبعاد كوارث عصابة مصاصي الدماء التي نهبتنا خلال حكم »شيخ المنصر«، الذي دافع عنه بعض أصدقائه فراحوا يمارسون دور الدبة لما نفوا عنه السرقة قائلين إنه »متسول« وأن ما جمع من مال هو حصيلة »التسول« وراح البعض يعدد ما تلقي من مال هدية من هذا أو صدقة من ذاك، وقد رأي هؤلاء أن التسول أقل سوءاً من السطو علي مال المصريين! إن هذا البعض جاء يكحلها فأعماها، لأنه كيف يستقيم أن يمد رئيس أكبر دولة عربية وأعرق دولة علي وجه الأرض يده قائلاً »لله يا محسنين.. براميل نفط قليلة تمنع بلاوي كثيرة« كما أن التسول مؤثم جنائياً وأخلاقيا، مذهب لماء الوجه - بافتراض وجود ماء الوجه من الأصل - ولو سلمنا أنه مارس التسول من باب الهواية أو بدافع مرض نفسي فقد كان بإمكانه أن يمد يده »لأولاد الحلال« في مصر وهم مستعدون وإن اختلفت الذرائع من قصد التقرب لله إلي قصد التقرب لمبارك والعائد مضمون مع الأرباح أضعافاً مضاعفة، وأرض مصر واسعة وإهداء ملايين الأمتار ميسور تحت ستار البيع بالأمر المباشر لأنه حتي القانون طوع وتحول لأداة سطو للكبار! كما أن المصريين اعتادوا التبرع قهراً سواء للطرق أو لتلك الجامعة أو ذلك المستشفي رغم علمهم علي سبيل القطع واليقين أن عائد »التبرع القهري« يشق طريقه إلي جيوب السادة اللصوص! إن بعض دفاع »البيج بوس« فكاهي وإن كان لا يضحك لصدوره عن رئيس دولة يفترض أن له وقار الكرسي علي الأقل رغم خلعه، كما أن السياق الدموي للثورة يحول دون الإغراق في الضحك، فقد خرج اللص ليهددنا - نحن الضحايا المنهوبين - بالملاحقات القانونية مدعياً أنه لا يملك خارج مصر مالاً، ولكن سويسرا سرعان ما ذكرته بما نسي، وربما كان له العذر في النسيان بحكم السن وبحكم أنه ربما اقترب من الله في المحنة وصار يعتبر أن المال مال الله ونحن عبيده الفقراء لا نملك من حطام الدنيا الفانية شيئاً، وربما أيضاً نسي - متعمداً هذه المرة - أن رد المظالم واجب ولا توبة بدونه، وأنه لا يغنيه عن رد المسروقات ما نقل عن ترديده في الأوقات العصبية عبارة »ربنا كبير«، لأن الرب الذي يستنجد به يأمره برد السحت سرقة كان أو تسولاً! علي أن مسلسل العجائب لا ينتهي في قصة »نهب مصر«، ومن تلك العجائب دناءة نفوس حالت دون التعفف عن أي مصدر يتاح النهب من خلاله مهما كانت قوة الكوابح التي تحول دونه أو نوع تلك الكوابح! لقد سمعنا حكايات كثيرة عن بقية خلق لدي بعض اللصوص والمجرمين عموماً، وأنواع من الشهامة تأخذ بعضهم فيخجل أن يسرق عجوزاً أو معدماً، وفي حدود معلوماتي فإن هناك عرفاً عاماً بين لصوص (زمان) بألا يسرق أحد من منطقة سكنه إكراماً للجيرة، وقد حوكم قاتل محترف يوماً وخلال المحاكمة تبين أنه لم ينل أجره لأن من ثأر لمقتل زوجها مدت يدها إليه بقرطها الذهبي فرفض - رغم شناعة إجرامه وحقارة نفسه - وقال: »سأقتله جدعنة«! والمذهل أن المجرمين ممن يحملون أسماء علي شاكلة »أبو سريع والهجام ومقشاط« يتعففون عما لم يتعفف عنه زعيم العصابة وامرأته وولداه وباقي أفراد التشكيل، فقد مد »الكبير« يده للتسول كما روي أحباؤه، ومد الأبناء يدهم إلي كل شيء حتي الغاز المصدر للصهاينة فقد حصل أحدهما علي نسبة من الصفقة شبه المهداة من الحبيب إلي حبيبه!، ناهيك عن الأراضي والقصور والشركات في مصر وخارجها، ولكن الدهشة استبدت بي أكثر مما استبدت عند استحلال مال مكتبة الإسكندرية ومشروع القراءة للجميع، لأن مثل تلك المشروعات تتلقي تبرعات من الخارج والداخل، ومال التبرعات يثير تعفف أقل الناس إحساساً، فضلاً عن أن مشروع القراءة للجميع كان مفخرة لسيدة مصر الأولي »سابقاً« حتي إن أحدهم أهاننا جميعاً علي كل كتاب نشر حين كتب في المقدمة متزلفاً لها قائلاً إنها حولتنا من شعب »الفول والطعمية« إلي شعب الثقافة من خلال مشروعها، فكان الأحري بها أن تترك المشروع دون أن تمد إليه يدها ولا تترك بعض تلاميذها يمدون الأيدي، وبعد ذلك فإن الدنيا أمامها وأمامهم مفتوحة علي مصاريعها ومستباحة! في يوم من الأيام قال عاطف عبيد مبتسماً إن مصر غنية ثم لوح إلي ثمن قناة السويس بصوت متحشرج نصف مكتوم، ويومها رجوته أن يترك لنا الأهرام والأزهر والقلعة وبعض المساجد والأديرة والأماكن الأثرية ودونه ما يشاء بعد ذلك للبيع، كنت وقتها منقبضاً لبيع ما يجوز وما لا يجوز، واليوم خطر لي خاطر مقبض أستعيذ بالله منه، فبعد أن بدأت تتكشف كوارث السرقات من ملايين الأمتار وألوف الأفدنة والفيلات والقصور ومليارات الدولارات، راح الخاطر يلح علي فيغرقني هما ويقبض أنفاسي كالكابوس لأفيق حامداً الله شاكراً، ومحوره تساؤل كئيب، تري لو طال المقام بالزعيم وعصابة الجراد المتوحش، وامتصوا كل الأخضر واليابس وجف ما يسرق، أكانوا بعدها يتركون الموتي أم يسرقون أكفانهم ويتاجرون في الجثث؟! الحمد لله.. الحمد لله.. لا يحمد علي المكروه سواه!!