عندما كتبت هذه الخواطر كانت الاستعدادات الحثيثة جارية في الدوحة لإعداد جدول أعمال القمة العربية الرابعة والعشرين وحين ينشر المقال تكون القمة ربما أنهت أشغالها وأصدرت بيانها ودشن القادة العرب عهدا نريده جديدا من التحول إلى صالح الأعمال عوضا عن بليغ الأقوال. ولا أخفيكم ونحن في كواليس القمة في الدوحة نتحاور مع وزراء كرام وسفراء أفاضل حلوا قبل القادة لضبط روزنامة أشغال القمة وكانت ربطتنا ببعضهم علاقات زمالة أو صداقة قديمة أننا سمعنا من أفواه جلهم حديثا عن عقيدة التضامن الجريئة الجديدة حيث تعتزم القمة تفعيل التعاون العربي البيني تماشيا مع التحديات التي تمر بها بلدان عربية معروفة لأسباب منها الدائم ومنها الظرفي وقد تفاقمت فيها البطالة الشبابية وتكرست فيها الفوارق الجهوية واندلعت فيها شرارات اليأس والقنوط من تنمية أبطأت وديون تراكمت وغضب مشروع تحول إلى تمرد. ولا يظنن مواطن عربي مهما ارتفع مستوى الدخل في وطنه الصغير أنه في مأمن أمين من هذه الهزات الاجتماعية التي تتجاوز الحدود وتعبر الجمارك لتصدر مشاكلها ويأسها من خلال شبكات العنف التي لبست عقائد بعض الجماعات المتطرفة والمسلحة التي تشكلت تحت شعارات غريبة وأصبحت إلى الفوضى والعدمية وثقافة الموت أقرب منها إلى الدين والسياسة. لو تبحث قليلا أيها القارئ تحت رماد المطالبات الاجتماعية أو الشعارات الدينية فإنك عاثر على جمر التهميش والفقر وقلة مسالك النجاح وصعوبة الكفاف في بلدان حباها الله من الرزق والموارد ما يمكنها من إعالة شبابها وتطوير أحوالهم لكن الخيارات السياسية الخطأ التي سنها بعض أولي الأمر منا منذ عقود من دون مشورة وبلا وفاق بل في مناخات من قمع الرأي الحر ورفض النصيحة والاستبداد بالفكر والتخطيط هي التي ضلت السبيل بالشعوب حين اختارت الحداثة المستوردة على الحداثة الأصيلة وحين طمحت إلى ما كان الزعماء العرب من جيل مقاومة الاستعمار يسمونه " اللحاق بركب الحضارة" وبهذه العبارة – العقيدة كان بورقيبة وعبدالناصر وبومدين والملك الحسن الثاني والملك الحسين بن طلال وحافظ الأسد يقصدون اللحاق بركب فرنسا وبريطانيا الإمبراطوريتين اللتين كانتا تستعمر بلدانهم ولعل هؤلاء الزعماء تصرفوا غالبا عن حسن نية وعن شعور وطني إلا أن التجارب التنموية أثبتت أنه لا تنمية لأمة إلا بالغرف من منابعها التاريخية وكنوزها الحضارية من لغة ودين ومعمار وطب وفلك ورياضيات وتربية وثقافة. وإذا أردت يا قارئي الكريم أن تتأكد من هذه النظرية فيكفي أن تنظر من حولك كيف انطلقت كوريا الجنوبية سنة 1960 في نفس اللحظة مع العالم العربي نحو الإقلاع الصناعي والتكنولوجي والثقافي وكان لكوريا ولتونس ومصر مثلا نفس الدخل الوطني الخام فاعتمدت كوريا على لغتها ونهلت من مخزونها الحضاري تماما مثل أختها الكبرى اليابان ثم انظر كيف انطلق العالم العربي من "أنموذج" الغرب المنتصر فانتحلنا لغته وقلدناه في ملبسه ومأكله وسائر شؤون حياته من مسكن وتنظيم اجتماعي وتشكيل الإدارة وبرامج التربية والتعليم فالذي حدث اليوم بعد نصف قرن هو أن كوريا تصنع لنا سيارة (كيا) و(هونداي) وكمبيوتر والهاتف الجوال الذكي (سامسونج) وتقنيات الاتصال وحتى التكتك الذي ننوي توريده لحل معضلات النقل في القاهرة وتونس والدار البيضاء. وبقينا نحن العرب نعاني ويلات التخلف الاقتصادي والفقر التكنولوجي ونلثغ بلغة المستعمر القديم ونجدف في بحر الظلمات لا نتبين طريقا للخلاص بعد أن اعتقدنا أن الربيع هلت أنواره بعد شتاء الاستبداد. إنه حري بالقمة العربية أن ترتفع عن ترديد البيانات الشاعرية التي تهز العواطف ولا تقينا العواصف وأن نقلد هذه المرة الاتحاد الأوروبي ونحذو حذوه في مؤسسة التضامن وتفعيل التعاون بين أعضائه (هذه المرة عن جدارة لأننا لم نقلد الغرب من قبل سوى في القشور) فينقذ العرب إخوانهم العرب بالاستثمار المرن السريع وضخ رساميل ناجعة في مشاريع تنموية تشغل الشباب وتعدل موازين دول عربية فقيرة وتضع التضامن العربي في قمة خيارات القمة ولن يخسر العرب الممولون في المراهنة على مشاريع رابحة مدروسة تكون في حماية الشفافية والحوكمة الرشيدة مثلما تتصرف دول الاتحاد الأوروبي اليوم إزاء قبرص واليونان حيث ضخت ألمانياوفرنسا وبريطانيا مئات المليارات من اليوروات في خزائن هاتين الدولتين لإنقاذهما من الإفلاس وإنقاذ أوروبا من فقدان اليورو وتحصين الاتحاد الأوروبي حتى يكون قطبا قويا بين أقطاب قوية هي أمريكا والصين وروسيا وما يدور في أفلاك هذه الأمم من شعوب انضمت إليها وعززتها واستفادت من التحالف معها. وكما قال الزميل السفير جمال الدين البيومي الأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب في سياق حديثه عن قمة الدوحة فإن على الدول العربية المحتاجة للاستثمار أن تؤسس لبورصات وأسواق مال وأن تخفف من القيود البيروقراطية والجمركية وأن توفر الخبراء والكوادر والأيدي العاملة.. وهذه هي الحوافز التي تجلب بها دول الغرب مستثمرينا العرب وأنا أضيف لرأي السيد البيومي الحافز الأهم والأكثر تشجيعا للإخوة أصحاب المال ورجال الأعمال وهو بسط الأمن والأمان وتطبيق القانون بحزم وعدل حتى لا يكون الشارع والفضاءات العامة ومؤسسات الدولة في مهب الرياح نهبا للخارجين عن القانون وقطاع الطرق والمحتالين على المجتمع. وحين نرى الحالة اليوم في بعض البلدان التي مرت بهزات عنيفة وتحولات سياسية عوض أن تجني شعوبها ثمار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية نراها تطالب بالأمن وتندد بالعنف وتستقيل تدريجيا من العمل السياسي بسبب الإحباط وسوء الأحوال وفقدان البوصلة. فعسى الله سبحانه يهدينا للتي هي أقوم. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية