يُعد مسجد العارف بالله سيدى إبراهيم الدسوقى والشهير ب«المسجد الإبراهيمى»، بمدينة دسوق، بمحافظة كفر الشيخ، أحد أهم المزارات الصوفية الكبيرة ليس فى مصر فقط بل فى العالم العربى والإسلامى أيضاً، حيث يقصده الآلاف من الزوار من جميع أنحاء مصر والدول العربية والإسلامية وبعض الدول الأوروبية. ويُعتبر المسجد قبلة للآلاف من أبناء المحافظات المُختلفة على مدار شهر رمضان المُبارك سنوياً، حيث تُقام بجواره حلقات الذكر وقراءة القرآن الكريم والندوات الدينية، وكان فى السابق قبل فترة «كورونا»، تتم إقامة موائد الرحمن بجوار المسجد التى تستوعب المئات من المُريدين والزوار ومُحبى القطب الصوفى «إبراهيم الدسوقى». وفد بُنى المسجد فى العصر المملوكى، وبالتحديد فى عهد «الظاهر بيبرس البندقدارى»، سلطان مصر فى ذلك الوقت، بأمر منه شخصياً، فعندما سطع نجم «إبراهيم الدسوقى» فى العلوم والمعارف، وانتشرت طريقته حتى وصل صيته إلى كل أرجاء البلاد، وذلك منذ أن ترك خلوته عندما دفن والده، وتفرغ لتلاميذه، سمع «الظاهر بيبرس» بعلم «الدسوقى» وتفقهه وكثرة أتباعه والتفاف الكثيرين حوله، وأصدر قراراً بتعيينه شيخاً للإسلام، كما قرّر السلطان بناء زاوية يلتقى فيها الشيخ بمُريديه يُعلمهم ويُفقههم فى أصول دينهم، وهى مكان مسجده الحالى، وظل «الدسوقى» يشغل منصب شيخ الإسلام حتى تُوفى «الظاهر بيبرس»، ثم اعتذر عنه ليتفرغ لتلاميذه ومُريديه، وبعد أن مات «الدسوقى» دُفن بخلوته المُلاصقة للمسجد، وكان عُمره 43 عاماً. ولقد التف مُريدى «الدسوقى» وتلاميذه حول أخيه «شرف الدين أبى العمران موسى»، وظل يُباشر تدريسهم بنفس الزاوية حتى تُوفى، ودُفن بجانب شقيقه، واستمرت الدراسة بهذه الزاوية، حتى توسعت وأصبح مسجداً عُرف بمسجد «الدسوقى» أو المسجد «الإبراهيمى». وفى عهد «إسماعيل بن إيواظ» حاكم مدينة دسوق، الذى حكم بعد وفاة «الدسوقى» مباشرةً نحو عام 1277م الذى كان أحد مُريدى «الدسوقى»، رأى أن المسجد أو الزواية التى دُفن بها «الدسوقى» غير مُلائمة، وذلك لتصدع حوائطها، لذلك أمر أن يُقام له مسجد كبير مُناسب لمكانته ومقامه، وقد كان بأن أزال الزاوية وأقام مكانها مسجداً كبيراً على شكل صخرة به عدة إيوانات، كما أمر أن يُقام له ضريح عظيم يليق به. وفى عهد «السلطان قايتباى» أمر بتوسعة المسجد، وبناء ضريح لمقام «إبراهيم الدسوقى»، وفى عام 1880م، أمر «الخديو توفيق» ببناء مسجد سيدى إبراهيم الدسوقى، وتوسعة الضريح، وبُنى المسجد على مساحة 3٫000م2. وفى عام 1969م فى عهد «الرئيس الراحل جمال عبدالناصر»، قامت الدولة بالبدء فى توسعة المسجد على مساحة 6٫400م2، ولكن القدر لم يمهل «ناصر» لافتتاح أعمال توسعة المسجد، حيث تُوفى بعد بدء الأعمال بأشهر قليلة، وافتتح «الرئيس الراحل محمد أنور السادات» مع الإمام الأكبر «عبدالحليم محمود»، شيخ الأزهر الشريف، فى ذلك الوقت، التوسعات الجديدة فى 23 يوليو عام 1976م فى ذكرى ثورة يوليو، وقد بلغت تكاليف هذه التوسعات نحو 750،000 جنيه مصرى، ليسع أكثر من 25 ألفًا من المُصلين، وأصبح به 11 بابًا، وصالون لكبار الزوار، ومكتبة إسلامية جامعة فيها المراجع الكُبرى فى «الفقه، والحديث، والأدب»، وهذه المكتبة يقصدها طلاب العلم والمعرفة من الباحثين وطلاب الجامعات من شتى المحافظات فى مصر، كما بُنى جناح خاص للسيدات من طابقين على مساحة 600م2، يفصل بينها وبين مُصلى الرجال غرفة ضريح «إبراهيم الدسوقى» وشقيقه «شرف الدين موسى» فى غرفة مُنفصلة تقع تحت القُبة مباشرةً، ويحمل المسجد أكثر من 158 عموداً، وقد بُنيت مئذنتين صغيرين مع هذه التوسعات، ثم هُدما فى التسعينيات من القرن العشرين لبناء 4 مآذن عالية جديدة مُلائمة لمساحة المسجد الكبيرة، وللمسجد أيضاً حرم خاص يُمنع فيه دخول السيارات، ومُلحق به حدائق بها نافورات، ونُصب تذكارية تطل على الميدان الإبراهيمى. وفى عام 2014م نفذت وزارة الأوقاف مشروعاً ضخماً لترميم وتدعيم مسجد سيدى إبراهيم الدسوقى بمدينة دسوق بتكلفة 5.5 مليون جنيه، واستغرق الترميم قرابة 6 أشهر، كما تم خلال عام 2017م اعتماد أكثر من 30 مليون جنيه لترميم أعمدة المسجد والحوائط والأسقف للحفاظ عليها من التلف. تناوب على قراءة السورة بمسجد «إبراهيم الدسوقى» عدد كبير من مشاهير القراء، ولعلّ أبرزهم القارئ الإذاعى الراحل الشيخ راغب مصطفى غلوش، والذى عُين قارئاً للسورة بقرار من الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى، وحتى وفاته فى عام 2016م، ومن ثم تم اعتماد كل من القارئ الإذاعى الشيخ قطب أحمد الطويل، والقارئ الإذاعى الشيخ أحمد عوض أبو فيوض، نقيب قراء كفر الشيخ، كقارئى للسورة بمسجد «الدسوقى». و«الوفد» تنشر لمحات من حياة صاحب «المقام»، فهو إبراهيم الدسوقى بن عبدالعزيز أبوالمجد بن قريش بن محمد المختار بن محمد أبوالنجا بن على زين العابدين بن عبدالخالق بن محمد أبو الطيب بن عبدالله محمد الكاتم بن عبدالخالق بن أبوالقاسم جعفر الزكى بن على الهادى بن محمد الجواد بن على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام على بن أبى طالب زوج السيدة فاطمة الزهراء بنت النبى محمد (صلى الله عليه وسلم). أما نسبه من والدته فهو ابن السيدة فاطمة بنت أبى الفتح الواسطى خليفة أحمد الرفاعى فى مصر، الذى لعب دوراً كبيراً فى تأسيس بُنيان الطرق الصوفية فى مصر، كما أنه من شيوخ أبى الحسن الشاذلى المغربى، الزاهد الصوفى، التى تنتسب الطريقة الشاذلية إليه. أما بالنسبة للقب «الدسوقى»، فقد لقب به نفسه، نسبةً إلى مدينة دسوق، بمحافظة كفر الشيخ، التى ولد ونشأ بها، فلفظ «دسوق» لفظ عربى، أصلها من مادة «دَسَقْ»، وهو امتلاء الحوض بالماء حتى يفيض، فيُطلق على الأحواض الصغيرة «دُسُق» و«دُسوق»، ويقول العرب «ملأت الحوض حتى دَسَقْ»، أى امتلأ حتى ساح ماؤه، و«الديسق» هو الحوض الملآن، ويُطلق أيضاً على وعاء من أوعية العرب والخوان من الفضة، و«أدسقه» أى ملأه. تقول روايات الصوفية أن «إبراهيم الدسوقى» بُشِر بمولده قبل أن يُولد، فكان هناك بقرية سنهور المدينةجنوب شرق مدينة دسوق شيخ من كبار الصوفية وقتها اسمه «محمد بن هارون»، وكان على صلة وطيدة بوالد الدسوقى «أبى المجد عبدالعزيز»، فكُلما رأى ابن هارون أبا المجد قام له وشدّ على تكريمه إياه، حتى لاحظ أصحابه ذلك وسألوه عن سبب ذلك، فقال لهم إن فى ظهره ولياً يبلغ صيته المشرق والمغرب، وبعد ذلك بمُدة رأوه قد ترك القيام فسألوه عن السبب، فقال لهم إن القيام لم يكُن لشخص أبى المجد بل لبحر فى ظهر وقد انتقل إلى زوجته. وقد وُلد «الدسوقى»- على أرجح الأقوال- فى يوم 30 شعبان عام 653ه - 1255م، بمدينة دسوق، فى عهد الملك «المعز عزالدين أيبك» السلطان الأول للدولة المملوكية، وقيل إنه فى ليلة مولده ظهرت له أول كرامة، حيث كان ابن هارون حاضرًا عند أبى المجد والد الدسوقى فى الليلة التالية للتاسع والعشرين من شعبان، حيث اتفق وقوع الشك فى هلال رمضان، وفى هذه الحالة لا يُعرف إن كان المسلمون سيصومون فى اليوم التالى أم لا، فسأل ابن هارون أم الدسوقى عن إذا كان رضع فى هذا اليوم، فقالت إنه منذ أذان الفجر لم يرضع، فقال لها ألا تحزن فسوف يرضع «الدسوقى» ثانية بعد أذان المغرب، ويعنى بقوله «إن الدسوقى قد صام»، وعلى أساس معرفته بهذا الأمر أمر الناس بالصوم. نُسب ل«الدسوقى» عن كرامته الأولى فى كتابه الحقائق بأنه قال: «إن الفقير مَنّ الله عليه من ظهر أبيه ولطف به فى الأحشاء، فحين وضعتنى أمى كُنت مُبشراً فى ذلك العام بالصيام، ولم ير الهلال، وإن ذلك أول كرامتى من الله»، وقد دخل خلوته وهو فى سن ثلاث سنين ليتعبد، وخرج منها فى سن ثلاث وعشرين سنة ليدفن والده أبا المجد بقرية «مرقس»، بلدة والده المُقابلة لمدينة دسوق فى الضفة الغربية لنهر النيل - فرع رشيد، فحلف عليه بعض الفقراء والمساكين ألا يدخلها، فجلس تجاهها فعُطلت أحوال سائر الناس واشتغلوا بالنظر إليه، وبسبب ذلك أرخى برقعاً على وجهه. ولذلك منسوب له أبيات من الشعر عن نشأته تقول: نعم نشأتى فى الحب من قبل آدم وسرّى فى الأكوان من قبل نشأتى على الدرة البيضاء كان اجتماعنا وفى قاب قوسين اجتماع الأحبة وكُلّ ولى للإله مؤيدٌ يشهد أنى ثابت فى ولايتى أنا القطب شيخ الوقت فى كل مذهب أنا السيد البرهان شيخ الحقيقة سطع نجم «الدسوقى» فى العلوم والمعارف، وانتشرت طريقته حتى وصل صيته إلى كل أرجاء البلاد، منذ أن ترك الخلوة وتفرغ لتلاميذه، ولما سمع السلطان الظاهر «بيبرس البندقدارى» بعلم «إبراهيم الدسوقى» وتفقهه وكثرة أتباعه والتفاف الكثيرين حوله، أصدر قراراً بتعيينه شيخاً للإسلام، فقبل المنصب وقام بمُهمته، وكان يهب راتبه من هذه الوظيفة لفقراء المسلمين، كما قرّر السلطان بناء زاوية يلتقى فيها الشيخ بمُريديه يُعلمهم ويُفقههم فى أصول دينهم، وهى مكان مسجده الحالى، وظل الدسوقى يشغل منصب شيخ الإسلام حتى تُوفى «الظاهر بيبرس»، ثم اعتذر عنه ليتفرغ لتلاميذه ومُريديه. وقد حدث صِدام بين «الدسوقى»، والملك «الأشرف خليل بن قلاوون» بعد توليه حكم مصر، بسبب فرض الحاكم المزيد من الضرائب غير المبررة على رعايا الدولة، فبعث له «الدسوقى» رسائل ينصحه فيها ويزجره ويطلب منه الرحمة بالناس وإقامة العدل. وتقول بعض الروايات الصوفية، إن «إبراهيم الدسوقى» لما شعر بدنو أجله، أرسل نقيبه إلى أخيه «أبى العمران شرف الدين موسى» الذى كان يقطن جامع الفيلة بالقاهرة، فأمره أن يُبلغه السلام، ويسأله أن يُطهر باطنه قبل ظاهره، وبالفعل ذهب النقيب إلى شقيق «الدسوقى»، ودخل عليه المسجد وهو يقرأ على طلابه كتاب الطهارة، فأخبره النقيب برسالة أخيه، فلما سمعها، طوى الكتاب وسافر إلى دسوق، فلما وصل وجد أخيه تُوفى وهو ساجد، وكان ذلك عام 696ه 1296م، على أرجح الأقوال، أى تُوفى عن عُمر يُناهز 43 عاماً. وقد دُفن «الدسوقى»، بمقامه المشهور، بمسجده، بمدينة دسوق، محل مولده، التى لم يُغادرها فى حياته إلا مراتٍ معدودة، وكان فى السابق قبل فترة «كورونا» يُقام احتفالان سنوياً، أحدهما فى شهر رجب يُسمى ب«المولد الرجبى»، والثانى فى شهر أكتوبر وهو الاحتفال الرسمى بمولده الذى يُعد من أكبر الاحتفالات الدينية فى مصر، ويحتفل بالذكرى أكثر من 77 طريقة صوفية، كما يزور مسجده الكائن بقلب دسوق، أكثر من 2 مليون زائر من مُختلف أنحاء الجمهورية، وبعض الدول العربية، والإسلامية وبعض الدول الأوروبية.