مَرَّ عامٌ على رحيل المفكر الكبير أستاذنا الدكتور عاطف العراقي -طيَّب الله ثراه- ونحن اليوم نذكره، فنذكر القيم الأصيلة فى رجل الفكر والفلسفة؛ وأهمها وأوْلاها شعوره العميق بالواجب وتأسيس فكره وضميره على الإخلاص فلم يكتفْ بمجرد المعرفة النظرية الخارجية قدر ما كان يُقرن الفكر بالتطبيق. كان واجبه يدفعه إلى العمل إلى الدرجة التى لاقى فيها ربه وهو فى رحاب عمله بين طلابه ومريديه لكن هذا الواجب لم يكن لديه كواجب الفيلسوف الألمانى «كانْت» ذلك الفيلسوف الذى كان يجله ويحترمه ويعتبره الفيلسوف النقدى يقف على قمة الفلسفة الحديثة كما كان أرسطو يقف على قمة الفلسفة اليونانية, وكما كان ابن رشد يقف بمنهجه النقدى على قمة الفلسفة فى العصور الوسطي؛ لا ليس هذا الواجب هو كواجب «كانْت» معزولاً عن دفعة الشعور والوجدان أو محجوباً عن قيم قلبية تدفعه إليه دفعاً بل يضاف إلى بواعث الواجب العقلية كذلك دوافعه القلبية, فكان كبير القلب وكبير العقل فى آن: كبير القلب فى شعوره ووجدانه وعاطفته, كبير القلب فى تراحمه وتوادَّه وتحننه على من يقدِّر هذا الشعور, ويعرف دوافع الإخلاص فيه تماماً كما يُدْرك منطلقاته وولاءاته القيمية. فكما كان صاحب «العقل الكبير» يتعامل مع أكبر العقول الفلسفية: الكندى والفارابى وابن سينا والغزالى وابن باجه وابن طفيل وابن رشد, كان كذلك صاحب «القلب الكبير», ودوداً ومحباً ومخلصاً وفياضاً بالمحبة والمودة والإخلاص, كان متسامحاً إلى أبعد حدود التسامح حين يعرف عمَّن يخطئون فى حقه أنهم أخطئوا عن حسن نية لا عن سوء قصد, فكان يغفر ويتسامح ويعفو, وأنا شخصياً لم أرْ مثله فى خلقه الطيب من يقتدر على امتصاص السقطات الإنسانية حين تصدر عن غير قصد أو عن غير تعمُّد. كانت خصال الروح عنده أعلى وأرفع من أية خصال سواها؛ حتى هذه الخصال العقلانية التى عُرف بها وشهر بين الناس بأنه الرشدى العقلاني؛ كان الروحانى المثال وكان بحق النموذج يحتذي, كان المفكر الإنسان: يقدِّر من يقدر القيم الروحية, ويحقر من يحقرها ويتعالى عليها ويعزل الحياة الإنسانية عنها. ولقد كنتُ أرى قيم الروح عنده أصدق فى الرفعة والعلو من أية قيم سواها, كنت أراها فى حديثه الجارى عن قضايا الثقافة وهموم المثقفين, وفى تعامله مع الناس إما بالرفض وإما بالقبول؛ وفى سلوكياته تجاه الأشخاص والأشياء والأحياء, وفى تحليلاته لقضايا وآراء تهُمُّ المواطن المصرى خاصَّة والعربى عامة, وفى جوانب إنسانية أكثر منها فكرية كانت تظهر للعيان تلك الخاصة الروحانية ممثلة فى مواقفه الرجولية الكاملة؛ وفى معاركه الفكرية التى خاضها حفاظاً على القيم التى تنشَّأ عليها وتربَّى وغرستها فى عقول طلابه ومريديه, وفى شروحاته عن حيوات الفلاسفة الكبار ومعتقداتهم, وفى تخريجاتك الفلسفية من أفكارهم وآرائهم ما يَهُمُّنا نحن فى حاضرنا بحثاً عن الجذور.