تجربتى الأولى لاحتراف البغاء باءت بالفشل،والرجل الذى تخيرته كما أخبرتنى صديقتى فى السكن بكيفية اصطياد الفريسة ملقى الآن على سرير خلف تلك الغرفة الزجاجية، أحمل محفظته الجلدية ودونت اسمى الثلاثى بشكل حقيقى على إقرار دخول المريض غرفة العناية المركزة، ثم هاتفه الذى أجريت منه مكالمة كانت هى الأخيرة لذلك الشخص، كنت مترددة فى الاتصال بأحد، أوصلته مع المسعف وركبت معه داخل سيارة الإسعاف وهو فاقد الوعى،غير أن ملامحه مع قناع الأكسجين الموضوع على وجهه كانت تقول أشياء جاهدت فى الهرب منها، لم أفلح، استحثتنى بالبقاء خشية أن يرحل وحيداً، قال لى بملامحه تلك الجملة:«هجرتنى زوجتى وأولادى وبت أخشى أن أرحل وحيداً وأموت وحيداً»، ابتسمت ابتسامة تحسّر من داخلى حين تفحصت الورقة العريضة التى دسها فى يدى، ورقة المائتى جنيه، أسلمته للطاقم الطبى ويبدو أنهم انشغلوا بمهمة إنقاذ الروح البشرية دون أن يعيروا انتباههم لى. لم يكن من مفر سوى إجراء مغامرة بالاتصال بآخر رقم تواصل معه، الهاتف يفتح دون كلمة سر أو رمز للدخول، بانت صورة لسيدة فى الأربعين من عمرها وبنتين وشاب، زوجته وأولاده، ما زال حريصاً على ممارسة التعذب بالتذكار، يضعهم أمامه ولا أعلم أية قدرة على التحمل فى اجترار التذكر لأشخاص قد ارتحلوا بإرادتهم عنه. كان الرقم الأخير المدون فى سجل الهاتف هو الدكتور أيمن ميشيل، يبدو أنه طبيب أسنان مثل ذلك البائس الفاقد للوعى والأسرة والبنين والزوجة، لن يحدث أكثر مما حدث، استجمعت شجاعتى متذكرة نصائح صديقتى فى السكن:«إياك والخوف..أنت صاحبة السر وصاحبة الجذبة، كل الرجال سيتفنون لإرضائك رغبة فى الوصول لذروة تنسيهم الوجع أو ذروة غياب مثل فص الأفيون ». رن جرس الهاتف رد بعد الرنة الثالثة للجرس... أيوه يا مراد حضرتك أنا زينب..الدكتور مراد فى المستشفى فاقد الوعى. كرياليسون...رحمتك يارب..مستشفى ايه وفين. أنا جايلك فوراً. كست النظارة الطبية التى يرتديها معظم معالم الوجه، كان يحمل ملامح تلك الصورة التى كانت تعلقها جارتنا «لوزة» فى قريتى التى هجرتها «أبوتيج» مركز أسيوط، كانت الملامح قريبة إلى درجة كبيرة ومشابهة، شدتنى ملامح الصورة وسيطرت على مخيلتى، وتجرأت بسؤال أبلة لوزة جارتنا الطيبة، من هذا الرجل يا أبلة لوزة، فأجابتنى بأنه «أبونا متى المسكين» كان شفوقاً بالفقراء ورحيماً بأصحاب الحاجات، هجر الدنيا وظل فى الدير يعبد الله ويتقرب له بعمل الخير ومساعدة المحتاجين، ابتعد عن المناصب وكان مشمولاً بعناية الرب، انطبعت صورة أبينا متى المسكين فى روحى، وهذا الرجل الذى أتى لنجدة صديقه يشبهه إلى حد كبير، لدرجة إننى كدت أتخيل أنه ينتمى له بالقرابة، لكنى أعرف أن الرهبان لا يتزوجون. لم يسألنى عن هويتى ومن أكون، بادرنى بجملة وحيدة، خير يا بنتى... تلعثمت فى الرد عليه، فكان شفوقاً بى، ولم يسألنى واتجه لسؤال الطبيب المعالج للحالة، ثم عاد مبتسماً، وأعطانى بونبون، وقال لى:«لا تقلقى هو مثل القطط بسبعة أرواح،غيبوبة سكر بسيطة والأطباء ظبطوا السكر ووظائف الجسم ثم سيعود إلى عالمنا سريعاً، اعتبريه نائماً ويحلم الآن ولا داعى لتوترك، سأطلب لك كوباً من الشاى ولو كنت تفضلين القهوة أخبرينى، ابتسمت للطبيب الذى يشبه فى حنوه أبينا متى المسكين قلت له، الشاى فى هذا البرد أفضل»، مرت دقائق وعاد الطبيب بكوب الشاى وأخبرنى بأن أتوجه معه للتعرف على زوجته،هو يعيش معها فقط، ابنه مهاجر إلى كندا وبات يؤنس زوجته وزوجته تؤنسه وأننى سأكون ضيفة تكسر حدة سكون بيتنا، لكننى اعتذرت بأدب قلت له:«قلبى لا يطاوعنى على ترك الدكتور مراد» سأبقى لجواره، بينما الفضول يشدنى لأساله عن سبب وحدة صديقه وهجر أولاده له، بينما أرتشف كوب الشاى وهو أمامى، خرج التساؤل مباشراً:«هو ليه زوجته وأولاده هجروه؟». تبسم الدكتور أيمن ميشيل،ثم قال:«أنا صديق مراد لأكثر من خمسة وأربعين عاماً تخيلى، كان زوجته هى أقرب الناس لقلبه، عاش لأولاده، ثمة أمر كسر ذلك الحب وبدده،لا يمكن لى أن أمثل دور القاضى وأصدر الحكم فيمن هو صواب ومن على خطأ، لكن صديقى الذى يرقد وجسمه مدجج بأجهزة فحص وظائفه الحيوية، بات معذباً ومتألماً، لذلك الهجر، وأصبح الحنين لأسرته أشبه بنزيف مستمر يأخذ منه». ثم بادرته بالسؤال وأين أم زوجته ووالدها لما لم يتدخلا، فرد الدكتور أيمن ميشيل:«الحكمة لا تقتضى التسرع يا بنتى، لكن ليس هناك من مجيب، صديقى طرق كل الأبواب بهدف إعادة الوصل دون نتيجة أو نجاح». وظل التساؤل لا يترك رأسى أين أم زوجته؟ «حماته»، هل ارتضت خراب البيت وضياع الأسرة، ثم كيف لهؤلاء الأولاد أن يكونوا بمثل هذا الجحود، وأى جريمة ارتكبها ذلك الرجل المسجى بلا حول خلف الغرفة الزجاجية فى حق أبنائه؟... وكيف لهذه اللوحة القدرية أن تتشكل بهذا الإطار، أنا الفارة من قريتى فى الجنوب، والبعيدة عن أبى وكل ذرة بداخلى تتوق له وتشتاق لرؤيته، وهو يظن أننى فى العاصمة القاهرة استكمل دراستى وعملى، ولا يعلم بقدر خيبتى وحسرتى، هو طريح الفراش منهك البدن بفعل فيروس سى الذى أكل كبده وتغذى على بقايا روحه، وفى كل مرة يبتسم ويردد جملته المفضلة:«الله جميل ولا يأتى منه إلا كل جميل...» ثم يدخل فى حالة الغياب منادياً على صديقه وحبيبه بحد تسميته:«حبيبى يا فرغل...وحشتنى يا سلطان يا فرغل».. السلطان الفرغل الولى الصالح الذى يسكن بقريتنا «أبوتيج» كيف له أن يصاحبه أنا لا أعلم، ولكنى بينى وبين ذلك الولى خصومة، وغضب....السطان الفرغل...أنا غاضبة منك أيها الولى وربما كنت أنت السبب فى رحيلى عن بلدتى، وربما أكون متحاملة عليك، ما أعرفه أنك لم تنصرنى، وكلما سألت أبى فى أمر كان يخبرنى بأنه سيسأل صديقه الفرغل ويجيب، منذ طفولتى وأنا على هذا الأمر، بينما أنت فى مقامك ورقدتك ولا أعلم كيف تجيب أبى وكيف لأبى أن يصاحبك؟! انتبهت على صوت الدكتور أيمن ميشيل:«طالما مصرة على البقاء أحضرت لك هذا الشال تضعينه عليك وتنتظرين بجوار هذا الأب البائس، كلها ساعتين ويستيقظ وسيكون أول تساؤل له عن علبة التبغ الخاصة به، سأذهب لزوجتى الوحيدة وأعود لك بعد الساعتين.