باءت محاولتى بالفشل، وإن كنت قد بذلت كل الجهد لتنجح، لكنها لسبب أو لآخر فشلت، وقد ظننت لوهلة أننى مفارق الدنيا دون لقائك أو مداعبة وجنتك كما كنت أفعل وانت لم تتجاوزى عامك الأول، فعلت ما هدانى عقلى إليه، استعرت سيارة طبيب صديقى، وقصدت الجامعة التى سجلت اسمك فيها، توقفت أمامها مثبتًا نظرى على بوابة الدخول والخروج لعلنى أجدك وسط الجموع التى تدخل وتخرج، كنت أدقق النظر مخافة أن تنفلتى من أمام عينى دون أن أصرخ باسمك: «ابنتى..ج»، الساعات مرت متوالية، رفقتى فقط بصحبة ذلك التبغ الذى أحرقه ويحرق فيّ ويملأ كبينة سيارة استعرتها لانتظارك، دون أن ألتقيك. لم يكن أمامى سوى ذلك الفعل بعد إقدامك بتغيير آلية التواصل الوحيدة معك وهو رقم هاتفك، فباتت كل الطرق المؤدية إليك مبتورة ومقفلة. وظللت أتساءل كيف السبيل إلى ابنتى كى التقيها بعد ذلك الهجر والحكم الذى صدر منك برمى رصاصة الإعدام مصوبة بندقيتك إلى قلبي؟، وفاتك يا حبيبتى أن أباك قد جاوز الستين بعامين، فأصبح فى قاموس الأحياء كهلا، لم تزعجنى كهولتى ولا حاجتى لأحد يعاوننى فى ترتيب البيت أو إعداد الطعام، بقدر ما أصبحت أستشعر بعذابات فقد الضنا -أنت وإخوتك - فبت كتلك الشجرة المتوحدة. باءت يا ابنتى كل المحاولات للوصول إليك بالفشل، لم ألم أمك التى فرضت حصارها عليك، بت أتساءل كل يوم عن الخطيئة الكبرى التى جعلتك أيتها الفتاة قاسية إلى حد الهجر بينما يعترينى خوف قاتل أن أفارق الدنيا دون أن ألقاك وبقلبى غصة منك ومن إخوتك، حدثينى ابنتى عن جريمتى فى حقك وحق إخوتك؟ حدثينى ربما أعيد الحسابات مرة أخرى، فكلما حكوت الحكاية لأحد تيقن بداخله أننى القاتل لذلك الود والقاطع لحبل البنوة وقد فعلت أمرا حال بين لقائى بك ولقاء إخوتك، فصرت كالكلب الوحيد، نعم يا فتاتى الكبرى «ج» صرت كلبا وحيدا يعانى فقط من ألم الحنين إليك، ورؤية ملامحك مخافة أن تتبدل أو تتغير. أنا يا ابنتى ذلك الأب الذى أوفد كل مدخراته المالية لأمك طيلة سنوات الغربة، كنت أتنقل بينكم وبين بلدان النفط، مخافة أن تحول الأيام بيننا، ما أذكره فقط أن العامين الأخيرين فى الغربة قد أوفدت لأمك مبلغ سبعين ألف دولار، أرسلتها بحوالات وأوراق مثبتة، لكنى عقب هذا الإرسال، وجدتنى استيقظ فى غربتى على رسالة مصورة لورقة رسمية تفيد بأن زوجتى وأم أولادى قد «خلعتنى»، صرت غريبا ولا أعرف السبب الرئيسى لهذا الفعل، غير أننى أدركت أننى زوج غير مرغوب فيه ولأمك كل الحق فى اتخاذ قرارها بالفصل فى تلك الحياة، ربما أكون شخصا لا يطاق، أو هى قد أدركت ذلك بعد مضى عقدين كاملين من الزمن، عشرون عاما يا ابنتى ربما أدركت أمك ذلك، لا لوم عليها حبيبتى، هى لها الحق أن تقرر حياتها بالشكل الذى ترتضيه، بل أحيانا أتأمل موقفها فأرفع لها القبعة كونها واجهت الموقف، وقررت ترك رجل لا تطيقه بهدف الحصول على حريتها، وربما صادفت شخصا آخر يمنحها ما فشلت أنا في منحها له، هى لها الحق، وأقدر موقفها فلم تخدع زوجا مدونة على ورقة رسمية باسمه بينما تبحث لحياتها عن متنفس، علمتنى تجربة الوحدة عقب هجرك لى وإخوتك أن أتأمل المشهد بشكل به من التجرد ما يجعلنى أخرج بهذه النتيجة ابنتى، لكن لى الحق أن أتساءل عن كد غربتى ومصير هذه السنوات من العمل والحصاد؟ لى الحق أن أعرف أين وأى السبل أنفقت فيها هذه الأموال؟ لى الحق أن أعرف ما سبب حرمانى من رؤيتك؟ حين حادثها أحد الأقارب المشتركة بيننا كان ردها معبرة عن جريمتى أننى لم أنفق عليكم، وقد أوضحت لك أن كل كدى كنت أرسله عبر حوالات موثقة، فكيف يتم اتهامى بالعبثية والحياة دون انفاق على أولادى. فكان نصيبى عقب هذه الغربة أن تطلقى أنت وإخوتك الحكم بأن أحيا ما تبقى من عمرى شريدا وحيدا، يقتلنى تذكركم. ابنتى العزيزة، كنت أنتظرك أمام بوابة جامعتك أملا فى الرؤية من بعيد، لا أعرف هل كنت لأتجرأ وأقوم بالركض عليك والنداء باسمك محتضنك أمام الجميع معلنا هزيمة أب أمام ابنته أم كنت سأكتفى بالنظر إليك دون الجرأة على الاقتراب منك متعايشا مع حكمك بالاعدام الحى والموت البطيء لذلك الأب؟، ظل التبغ هو من يرافقنى طيلة دوامة التفكير والانتظار لرؤياك حبيبتى وابنتى.. وفى وسط كل هذه التفكيرات وجدت مقبض باب السيارة الأمامى يفتح، وقد خلت لثوان معدودة أنه أنت من أتى ففتح باب السيارة ليركب بجوارى، غير أن العطر النافذ الذى هاجمنى أخرجنى من ذلك التخيل، فانا أعى تذوقك للعطر الهادىء، رائحة الياسمين كانت هى الأليق بك ابنتى، لم تكن تلك الرائحة هى رائحة الياسمين، فقط هاجمتنى الرائحة ثم بعدها انطلق صوت من اقتحم وحدتى وانتظارى لك. ايه ده سيارتك معبأة بالدخان؟.. اكتفيت بتأملها من خلف نظارتى ومحاولا تفهم الموقف واستكشافه عقب خيبتى فى أنها لم تكن انت.. ثم واصلت كلامها دون ان تعير اهتمام لملامح الوحدة والتيه التى كست وجهى، فالحق أننى ما كنت مندهشا ولا نما بداخلى أى نوع من انفعال التساؤل والاستغراب. عندك مكان قريب؟ولا هنلفلف شوية بالعربية؟ كنت فى حالة لتلقى كلامها اشبه بالخدر، ثم وجدتنى أتحدث إليها: ماذا تريدين يا ابنتى؟ ضحكت الفتاة التى فى مثل عمرك، سخرت من قولى لها: «ابنتى». أكيد انت واقف هنا عشان تشقط؟ فهمت عبر كلماتها أنها ترانى متوقفا بالسيارة لالتقاط فتاة فى عمر ابنتى، وإلا لما يتوقف رجل جاوز الستين أمام بوابة جامعة؟....كان تبريرها للحدث منطقيا يا ابنتى «ج». والتزمت الصمت غير أني دققت فى تأملها محاولا ايجاد أجوبة تخص قضيتى أنا، قضيتى فى البحث عنك حبيبتى والتقاكِ لو لمرة واحدة وحيدة، ربما أخبرك فيها برضاى عنك رغم قسوتك وحكمك علىّ أن أحيا ما تبقى لى بلا أنت وإخوتك أيتها الطفلة الكبيرة، شاقنى ذلك الحنين «ج» شاقنى رؤيتك، عينك التى بلون خضرة ريف قريتنا الصغيرة فرحتك بلقيا جدتك تركضين، يدك وهى تداعب خصلات شعرى ثم تنزل على عينى، تتحدثين بهمهمة طفل، ثم سيرى بجوارك وقت اجتيازك لاختبار المرحلة الإعدادية، مزاحى معك وانا أقول لك: «من يجرؤ على اختطاف ابنتى الأميرة منى...» كنت تقولين: «لن أتركك يا أبى», فكنت أشد على يدك وأقول لك: «انت أم أبيك أيتها الشقية». لكنك الآن خالفتى الوعد القديم وتركتنى دون أن يختطفك الفارس، دون أن تنذرينى بالرحيل، تركتِ أباك فى وهنه وكهولته.. أخرجنى صوت الفتاة التى تجاورنى من ذلك التفكير... أنت يا بيه.. أنت سرحان فى إيه؟ من فضلك لازم تطلع مش هينفع نقف كده؟ أما أن يكون عندك مكان قريب أو نقضيها دلع فى سيارتك... بس قبل ما تطلع... مهرى ورقة عريضة.. سألت متحيرا إيه الورقة العريضة دى؟ فأجابتنى: «ورقة المائتين». عينى مثبتة على بوابة الجامعة، صوت الفتاة التى اقتحمت خلوتى ووحدتى وانتظارى لك ابنتى، عينى التى التفت إلى الساعة فوجدت عقاربها قاربت أن تشير للرابعة ما بعد العصر، خلت الوفود التى تدفقت إيابا وذهابا، العطر النافذ من تلك الفتاة التى فى مثل عمرك وتجاورنى الآن وتطلب منى مكانا قريبا لقضاء وقت للمتعة مقابل الورقة العريضة بحد تسمية أبناء هذا الجيل... دبت فى قلبى ابتسامة، أدرت مفتاح السيارة بصحبة ضيفى الوافد والمخترق لأسوار ذلك الحزن..لاحت عينك أمام زجاج السيارة ابنتى تبتسمين ببسمتك البلورية كشكل البنفسج فى صباح يوم جميل.. وتحركنا.