دعنى أوضح لك أن ما أكتبه لك عزيزى القارئ هذه المرة ليس مشابهًا لما كتبته لك فى الأعداد الماضية، سنرتحل بعيدا هذه المرة عن حكايات الصالحين وحودايت أولياء الله الزاهدين، سنفترق أيضا عن أبطال حكاوينا من الدراويش أصحاب الجذب، ولأنى دائما أحملك رهقا معى بحكم العلاقة التى تربطنى بك أيها القارئ فأستسمحك بأن تكمل صنيعك وتتحملنى هذه المرة. فالحدوتة اليوم لا تنتمى للخيال بقدر ما هى وثيقة الصلة بالواقع ومتجذرة فيه، لذا أيقظ حواسك عزيزى القارئ فما سنسرده ليس فصلا من رواية أدبية كئيبة بنكهة البؤس ولا هو بالنص المسرحى التراجيدى الاقرب لنص «كاسك يا وطن». المكان: الحرم الجامعى لكلية الآداب جامعة طنطا. مشهد أول: غرفة صغيرة يدخل إليها الدكتور عبد العزيز العطار المدرس المساعد بقسم التاريخ بالكلية، عضو الكنترول المعين على لجنة الطالب الكويتى الوافد للجامعة، الدكتور يتسلم من الطالب ورقة الإجابة فيكتشف أن ما سلمه له الطالب نموذجان من ورقة الإجابة كل نموذج بخط مختلف فيصاب بالصدمة كونه مازال مدرسا مساعدا فى الكلية فيقرر اللحاق برئيس الكنترول ليضع أمامه الكارثة. تنطفيء مصابيح المشهد، ثم تعاود اضاءة أكثر سطوعا، سنوغرافيا المكان عبارة عن مكتب بسيط مجتمع فيه ثلاثة أفراد لا تبدو هيئتهم إلى الآن. أسبوت اضاءة من أعلى يمين المشهد، تضح فيه ملامح لشخص يتصبب عرقا يجرى يتساءل بصوت صاخب فزع: «الدكتور عهدى فين؟ هتلاقيه فى المكتب جوه مع الدكاترة". يقتحم المكتب ويصرخ فى أحدهم: «الحقنى يا دكتور عهدى.. فى مشكلة» يرد الدكتور عهدى: خير فى إيه؟ حضرتك رئيس الكنترول وأنا أضع أمامك هذا الموضوع. اتكلم موضوع إيه. الطالب الكويتى الوافد سلمنى ورقتين إجابة. ينفعل الدكتور عهدى السيسى بشكل ينم عن فزع، فينتبه من تواجد فى المكتب. الدكتور عبدالكريم أبوجبل أستاذ مادة النحو والصرف والدكتورة أمانى غريب أستاذة الدراسات الإسلامية، يتلقف رئيس الكنترول ورقتى إجابة الطالب يضعهما على المكتب فيشهد على الواقعة الأفراد الأربعة. يغلق ستار المشهد، صوت لايقاع حركى وصوتى بالدور الثانى من الكلية وتحديدا عند مكتب العميد، لاتزال الإضاءة خافتة مع أثر حراك لأشخاص تروح وتجئ بإيقاع حركى غير منضبط فلا نتبين من يتحرك ومن يهمهم، صوت متحشرج من الداخل لا ينم صاحبه أنه ينتمى لأعضاء هيئة التدريس، إيقاعه الصوتى أشبه بصوت تاجر شنطة من تجار السوق السوداء الذين سمموا الوطن وباعوا فيه كل الأشياء واشتروا أيضا كل شيء. «هنبعت الورق المنصورة وخلاص يتصحح هناك».. طبيعى أن تتساءل عزيزى المشاهد أقصد عزيزى القارئ ولماذا المنصورة والطالب منتسب لآداب طنطا؟ لا تزال الإضاءة خافتة غير معلوم شخصية المتحدث....... يتقدم خشبة العرض رجل بدين تظهر فقط رابطة عنقه التى يلعب فيها ولا تبدو ملامحه يتحدث بنبرة ارستقراطية مصطنعة «شوف سيادة العميد أنا ما ينفعش أصحح الورق لأنى دخلت للطالب اللجنة أنا رأيى إننا نودى الورق المنصورة يتصحح هناك». الرجل الذى له صوت تاجر الشنطة يتحدث بصوت جهورى ولا نعلم هويته: «خلاص الورق يروح المنصورة يتصحح» أنت يابنى الموضوع اللى قلتلك عليه خلص؟ .. أيوه خلص. ربما تتساءل الآن معى أى موضوع... ربما تأتى الإجابة بعد قليل....... المشهد الثانى: غرفة داخل منزل ريفى لأسرة برجوازية من التى اختفت ملامحهم من الوطن، يقف عامل البريد ينادى بصوت مرتفع: يا دكتور عبدالعزيز يا دكتور.. يخرج رجل بسيط فى جلباب يرتدى نظارة طبية، يتأمل موظف البريد، يسارعه الموظف دون أن يبادره تحية الصباح: «الدكتور عبدالعزيز ابن حضرتك جايله تلغراف يحضر فورا للكلية لمقابلة العميد». المشهد الثالث: شاب فى بداية الثلاثين يتحرك بشكل يبدو فيه التوتر، يضغط على زر هاتفه، ويجرى اتصالا: «ألو.. أيوه.... أنا العميد طلب منى أحضر قبل ما أروح تحقيق الطالب الكويتى فى الجامعة عشان يؤثر على شهادتى»... - يتردد صدى الصوت من المكالمة: «اشهد بما يمليه عليك ضميرك وخلى وكيلك ربنا».. تنسحب الإضاءة مع أصوات لحراك سيارات وأزيز محرك خارج المشهد. المشهد الرابع: إضاءة... مكتب وثير عليه ملامح الترف والرفاهية يجلس شخص يدير ظهره للجمهور بيده هاتف نقال.. يضحك بصوت جهورى: «ههههه كاميرات إيه وكلام فاضى إيه... الكاميرات بايظة والتحقيق فى الموضوع ده اتفتح واتقفل هو شغلانة ولا ايه»... غريبة هو نفس الصوت للرجل الذى يذكرنا بتاجر الشنطة.... تخفت الإضاءة. مشهد أخير وحزين: مكتب داخل مؤسسة جامعة طنطا... يجلس المحقق خلفه، بينما يجلس الدكتور عبدالعزيز أمام المحقق: يشرع المحقق فى السؤال: س: ما هو قولك.. يقاطعه الدكتور عبدالعزيز، انتظر من فضلك، يخرج من جيبه ورقة مطوية ويضعها أمام المحقق، «دى حضرتك تلغراف أرسله لى العميد كى أمر عليه قبل التحقيق لمحاولة التأثير على شهادتى.....». نغلق الستار عند هذا الحد.... لا تصفيق الآن... نعاود لأربعة شهود:« ثلاثة رجال أعضاء هيئة تدريس بالكلية التى تصنع عقول أبناء الوطن وأستاذة جامعية أيضا، ذهبوا للإدلاء بالشهادة، قال لنا بعض الأشخاص إن فواح الريحة أصبح طاغيًا على كل شيء، الدكاترة الأربعة قالوا فى شهادتهم إن أوراق إجابة الطالب حملت شكل خطوط مختلفة وهو ما يؤكد أن هناك من دخل اللجنة وسلمه نماذج إجابة مكتوبة، وان الكاميرا كانت معطلة، أقوال متناثرة حول ساعات رولكس وماركات عالمية قدمت لبهوات الكلية، التحقيق مازال غير معلومة نتائجه. لعلنى أعترف اننى قد ابتعدت منذ سنوات ليست بالقليلة عن معارك العمل بمهنة البحث عن المتاعب، واهتديت إلى معادلة بها بعض السلم مع النفس وهو الكتابة عن الإنسان نفسه، ومعالم الوجود التى تعمى أعيننا عن رؤيته، مستمتعا بالكتابة عن أناس لا علاقة لهم بأى شيء سوى أنهم يعيشون دون أن يعرفهم أحد ولا حاجة لأحد بمعرفتهم ولا حاجة لهم لأن يعرفهم أحد، غير ان الدافع للكتابة هذه المرة هو نوع من العمى أشد فتكا من عمى الفطر الأسود الذى نخشاه، يقول الدكتور عبد السلام الشيخ رحمه الله فى أحد مؤلفاته « إن الاتجاه القيمى عند الانسان وتكوين نسق معرفى تحكمه العديد من المؤثرات، وذكر رحمه الله أن المحاضرة سواء كانت جماهيرية أو تثقيفية أو طلابية داخل حرم جامعى فإن نسبة التأثير من خلالها أعلى بكثير من نسبة تأثير وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون والصحف، وهو ما يعنى أن المدرس الجامعى حامل رسالة تنويرية لتكوين اتجاه قيمى ومعرفى وعقائدى وايديولوجى داخل عقول أبناء هذا الوطن وأكثر تأثيرا من مثيرات أخرى. لذا فكيف من الممكن أن يكون أستاذا جامعيا يمثل ويشغل منصبا قياديا به من العوار السلوكى ما يدمر عقول أبناء هذا الوطن ويبيع عرض الوطن من خلال شهادة تحمل اسم كلية داخل جامعة الوطن.... أين نتائج التحقيق سيادة رئيس الجامعة؟.. وأين رقابة الوزارة على مؤسسات البحث العلمى معالى وزير التعليم العالى... الملف كله برقبة الجميع، لا استثناء لأحد عن تحمل المسؤولية ولا تنصل منها طالما كانت الجريمة داخل الحرم والبغاء فى عقول طلاب هذا الوطن... فالجريمة فى الحرم.