عرت رياح الربيع العربي حقيقة أغلبية العلمانيين والليبراليين والمتياسرين، الذين يصفون أنفسهم ب «الديمقرطيين» ويجعلون الديمقراطية حكرا عليهم وما دونهم رجعيون ظلاميون ماضويون وباقي المعجم المعروف والأسطوانة المشروخة. وبات واضحاً في كل من تونس ومصر أن كثيراً من هؤلاء «الديمقراطيين» جداً مجرد محميين (نسبة لنظام الحماية في عهد الاستعمار) و «أزلام» وأيتام لجهات تدعمهم لكي يربكوا مسار التغيير ويحولون دون تحقيق ما خرج التوانسة والمصريون إلى الشارع وثاروا من أجله، وضحوا بأرواحهم وأوقاتهم وقوتهم من أجل تحقيقه. والسبب غير خفي، فأغلبهم كان في خدمة الاستبداد إما قناعة أو نكاية في الإسلاميين وإقصائهم من الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية إلى أن جاء الربيع العربي فكشفهم «ديمقراطيون مزورون» ونخبة منتهية الصلاحية «Expired». ولم تكن تصريحات وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس بعد الجريمة الإرهابية باغتيال زعيم الجبهة الشعبية المعارضة شكري بلعيد، ودعوة بلاده لدعم ل «الديمقراطيين في تونس لضمان عدم خيانة القيم التي قامت من أجلها ثورة الياسمين». ولم يكن قول فالس «يبقى الأمل في الانتخابات التي تسمح للقوى الديمقراطية والعلمانية، التي تحمل قيم ثورة الياسمين، أن تفوز بها غداً» معتبراً إياها مسألة رئيسية، للتونسيين ولمنطقة البحر المتوسط وبالتالي لفرنسا زلة لسان ولا مجرد تدخلا في شأن دولة مستقلة كما قالت بذلك أحزاب تونسية، بل هو تعبير أيضاً عن حالة إحباط من الفشل الذريع ل «الديمقراطيين الحداثيين» وضعف شعبيتهم لدرجة الغربة عن واقعهم. وبات واضحاً أن مرتكبي الجريمة النكراء المذكورة مهما كانت هويتهم وهوية من يقف وراءهم، سعوا ويسعون لإرباك الحكومة التي يقودها الإسلاميون في شخص حركة النهضة باعتبارها عمودها الفقري، بتأزيم الوضع وخلق حالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي ينضاف لوضع اقتصادي غير مريح، وفي هذا السياق يأتي حديث البعض عن احتمال تكرار السيناريو الجزائري في تونس. غير أنه واضح أيضاً أن الشعب التونسي لن تنطلي عليه اللعبة، ولن ينخدع بخطة أو مسعى الإرباك ومسرحيات أنصار النظام السابق مهما غيروا الأسماء والخطاب، وسيتمكن بإذن الله من تجاوز هذه المرحلة الانتقالية إلى المرحلة العادية بأقل الخسائر؛ لأنه شعب فشل نظام بن علي طيلة أكثر من ثلاثة عقود في تصحير وعيه السياسي والثقافي بعدما نجح في تصحير المشهد السياسي والإعلامي وقتل السياسة في الواقع بالهيمنة على كل المؤسسات، خاصة المنتخبة وذات الطابع التمثيلي، وهذه نقطة مهمة جداً تتميز فيها الحالة التونسية عن الحالة المصرية - مع ضرورة استحضار الفارق بين البلدين من حيث عدد السكان وحجم التحديات المطروحة - خاصة أن شريحة مصرية كبيرة تعرضت لعملية غسيل دماغ وشحن من عشرات وسائل الإعلام ذات الأجندات الخاصة، واستعمال أموال طائلة في تجييش البطالين والمنحرفين وحشرهم في صراع سياسي لا يدركون أبعاده ولا مآلاته. وما يؤكد حصول حالة من غسيل الدماغ، هو حصول أحمد شفيق وهو أحد شخصيات نظام مبارك على نسبة معتبرة في الانتخابات الرئاسية خاصة في الدورة الثانية وهو مشهد سوريالي بامتياز. وما جرى في مصر منذ طرح مسودة الدستور للنقاش والتصويت عليه إلى اليوم يكشف أن هناك شريحة من الشعب المصري انطلت عليها مسرحيات «الفلول» ومخططات ما يعرف بجبهة الإنقاذ الوطني للانقلاب على الصناديق، وعدم الوعي بأن زعماء هذه الجبهة يخدمون استراتيجية تزرع البلبلة والاحتقان الاجتماعي، وتحول دون الاستقرار السياسي ودون امتلاك مصر قرارها بيدها وجعل المصريين هم صاحب الكلمة وللأسف استراتيجية للخارج يد فيها. وليس هذا نتاج تحليل أو تخمين بل بات معروفاً ومكشوفاً بالصوت والصورة، ويوجد بموقع «اليوتيوب» مقطع من ندوة أدارها روربت ساتلوف مدير معهد واشنطن، تحدث فيها دينيس روس أشهر مبعوث أميركي للسلام في الشرق الأوسط ومستشار معهد واشنطن، وايليوت إبرامز من مجلس العلاقات الخارجية ونائب مساعد لبوش الابن ونائب سابق ومستشار الأمن القومي الأميركي عن كيف ينبغي إيقاف رياح الربيع لعربي، ومحاصرة الإسلاميين خاصة في مصر ودعوتهم لمساعدة الليبراليين والعلمانيين -وهذا لا يعني أن كل علماني أو ليبرالي يوافق على هذا لكن نقصد الأغلبية- ودعمهم. وعلى الموقع نفسه توجد كلمة لليسناتور مارك كيرك عضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية الينوي ألقاها بالمجلس المذكور في ديسمبر 2011 حول الانتخابات المصرية التشريعية والحزن على ضعف تأثير العلمانيين والليبراليين في الشارع المصري وعدم حصول أحزابهم مجتمعة إلا على نسبة %12 مقابل هيمنة الإسلاميين وشعبيتهم الكاسحة والشاملة لكل فئات المجتمع، ودعوته لضرورة أن يكون لأميركا دور فيما يجري حتى لا تمس مصالحها الاستراتيجية، خاصة ما يتعلق بإسرائيل وضرورة بقاء مصر التي وصفها ب «الدولة الحساسة» تدور في فلك الولاياتالمتحدة الأميركية. وقال مارك كيرك: إنه التقى شباب وقادة من التيار الليبرالي والعلماني، ويجب العمل معهم ودعهم والحيلولة دون هيمنة الإسلاميين على المؤسسة التشريعية في الانتخابات المقبلة. ويؤكد ما سبق مقطع من محاضرة للبروفيسور الأميركي ماكس مانوارينج الأستاذ الباحث في الاستراتيجية العسكرية عن «الجيل الرابع من الحروب: حروب إفشال الدولة» بمعهد دراسات الأمن القومي بالكيان الإسرائيلي في أغسطس الماضي، وهو المقطع الذي يساعد على فهم ما يجري اليوم خاصة في مصر وتونس واليمين وليبيا. وما سبق من معطيات ليست هينة، تطرح مسؤوليات كبيرة وجسام على السياسيين والاقتصاديين والفنانين وكل شرائح المجتمع على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية واهتماماتهم تحديات كبيرة في الدول المذكورة، وتفرض عليهم الترفع عن المصالح الشخصية الضيقة والحسابات الصغيرة، والاحتكام لإرادة الشعب والثقة فيه، لحماية بلدانهم من العودة للاستعمار الجديد (الناعم) تحت مسميات مختلفة، ولحمايتها أيضاً من عودة الاستبداد. ويبقى الوعي الشعبي العام سواء في مصر أو تونس بتحديات المرحلة والمخاطر التي تحدق بثورتهم، والحذر من مشاريع المحميين لإفشال الدولة، هو صمام الأمان للمضي في طريق الديمقراطية وتحرير إرادة الشعبين والدولتين واجتياز المرحلة الانتقالية بأقل التكاليف. نقلا عن صحيفة العرب القطرية