أفهم لماذا قدم وزير الثقافة استقالته دون أن يصرح بالأسباب.. فهو غير محتاج إلى ذلك فهى واضحة وجلية.. ولكن الحقيقة أنه ليس الوحيد الذي في مأزق بل إن الوزارة والمثقفين والمبدعين معه في نفس المأزق. إن وزارة الثقافة هى وزارة الحرية والإبداع وهى التى يجب ان ترعى وتدافع عن الأحرار أصحاب الأفكار والرؤي والفنانين في كل المجالات سواء كان رقصا, غناء, فنا تشكيليا, مسرحا وسينما لأن الانتاج الفنى بطبيعته انتاج حر يبدعه أحرار. إن الثقافة دائما وأبدا على يسار الحاكم أيا كان انتماؤه وأي مثقف حقيقي هو بالضرورة معارض وناقد وكاشف لعيوب الحكم, ووزارة الثقافة التي تمولها الحكومة لا يمكن أن تقوم بعمل دعاية سافرة لحاكم أو نظام.. فلا أحد يتصور مثلا أن تقدم مسرحية عن انجازات الحاكم وتوضع صوره فى مقدمة المسرح مهما كانت شعبيته وجماهيريته!! أو أن تقام ندوات فى قصور الثقافة عن جمال وحلاوة الديكتاتورية في بناء الشعوب العربية والمصرية!! أو القول الفصل في طهارة ونظافة الحزب الحاكم الذي يضاهى نظافة مساحيق الغسيل, أو تقام معارض فنون تشكيلية عن خطوات الحاكم.. ووضعية حكمه واقفا وجالسا..أو نقدم لأطفالنا فى قصور ومراكز ثقافة الطفل انجازات الحزب والرئيس..إن التاريخ والنقد المسرحى يسجل إن أغلب المسرحيات والعروض الناجحة التى قدمت على المسارح الحكومية هى التى انتقدت الحاكم والنظام وذلك منذ إنشاء الوزارة فى عهد عبد الناصر. إنها وزارة الناس مستخدمي الثقافة أو مثقفين وفنانين مبدعين, فهي ليست وزارة الاعلام التي ومنذ إنشائها مخصصة للدعاية للحاكم وحزبه أو منظمته وجماعته وأحيانا عائلته وهى أيضا ليست كوزارة الشباب التى ومنذ إنشائها (وتعدد مسمياتها منذ منظمة الشباب فى الستينيات) كان هدفها هو السيطرة على الشباب وغسل أدمغتهم واعتناقهم أفكار الزعيم أو نظامه والايمان بها إن وجدت, لذا كان من الطبيعى أن تصرف الدولة ببذخ على الإعلام والشباب فى نفس الوقت الذي تتضاءل فيه وتتواري ميزانية وزارة الثقافة خجلا. وهى الآن ولأول مرة منذ انشائها, تتعرض لخطر كبير ومحير يفوق كل ما مر بها من قبل.. فجماعة الاخوان المسلمين التى تحكم مصر الآن, فصيل غير مؤمن بالحرية ولا بالديمقراطية بل والبعض منهم يجاهر برفضه وتحريمه للفنون!! أي أن الثقافة والمثقفين لا يواجهون اختلافاً سياسياً فقط بل دعاوي تكفير وخروج على الدين من وجهة نظر الاخوان وحلفائهم. إنها حرب قادمة من الجماعة الحاكمة ضد الثقافة والمثقفين وقد لا يحتاجون الجهر بذلك أو جرجرة الثقافة فى المحاكم (كما يحدث هذه الأيام مع الإعلام الخاص) بل أكاد أجزم إنها ستكون حرباً ناعمة عن طريق خنقها بالرقابة ونقص وتقليص استحقاقات لوزارة المالية وتعيين من يقومون بتنفيذ أوامر ومخططات الجماعة.. أنها مشكلة كبيرة تواجه الوزارة والعاملين فيها لأول مرة. وأعتقد أن على المسئولين فى الوزارة البحث عن طرق جديدة للإدارة بعيدا عن (الباترون) النموذج القديم فلن يكون صالحا مع الإخوان المسلمين. بل هم محتاجون إلى من يملك حنكة إدارية وخبثاً فى الأداء يستطيع مواجهة لوع وديكتاتورية وجبروت الإخوان دون خسارات فادحة فى مسارات الثقافة المصرية وقوتها الناعمة. كان الله معهم وفى عونهم.