أخشى أن يكون مايجري في مصر حاليا هو من قبيل الأحلام, بل مما قد يتجاوز الأحلام في ليالي الصيف. خلع حسني مبارك بعد 30 عاما من الانفراد بالسلطة والعبث بها, وسقوط مخطط توريث نجله جمال, ثم التحقيق مع مبارك وحبسه 15 يوما على ذمة التحقيق وتجديدها في تهم عديدة خطيرة إذا قدم للمحاكمة فيها فإنه سيدخل السجن لامحالة لو أفلت من الإعدام, وكذلك التحقيق مع نجليه جمال وعلاء وحبسهما في سجن طره بتهم خطيرة أيضا, وخضوع سوزان ثابت زوجة الفرعون وزوجتي ابنيها للتحقيق أمام الكسب غير المشروع، أي أن الأسرة الحاكمة السابقة كلها في قفص الاتهام الآن بعد أن كانت هي التي تتهم وتحاكم من تشاء من ال 85 مليون مصري.أليس ذلك حلما كبيرا؟. ألا يحتاج المرء فعلا أن يتأكد من أنه يقظ وليس يغط في نوم عميق لاستيعاب هذا الذي يحدث وكان يوما خارج التصور بل من المستحيلات؟. دعك من سقوط رجال دولة مبارك ووجودهم الآن جميعا في الحبس فهذا جزء مهم من الحلم الذي نتابع فصوله ونحن مستيقظون لكن الأهم فيه هى الرؤوس الكبيرة, مبارك وعائلته. من مفارقات القدر أنه في يوم ما كان حلم المصريين أن يستمر مبارك في السلطة رغم تقدمه في السن واعتلال صحته وفساد وكوارث نظامه وذلك حتى لايكون البديل هو توريث جمال الذي فشل في صنع أي قبول شعبي لنفسه أو تحقيق أي إنجاز سياسي أو تنموي, وبالتالي كان المصريون أمام خيارين أحلاهما مر.وهم طوال عمرهم يشربون المر كؤوسا من الطغاة الذين يحكمونهم. ومن مفارقات القدر أيضا أنه في يوم ما كان المصريون قد هيأوا أنفسهم للقبول بجمال رئيسا طالما أن التوريث أصبح قدرا لامفر منه وطالما أن التدليس على الإرادة الشعبية سيتم تحت غطاء اسمه الانتخابات وساعتها كانوا سيشربون المر مرغمين أيضا. هذا الخيار كان جاهزا للتنفيذ في سبتمبر المقبل يأسا من إمكانية سقوط خطة التوريث باعتبارها دخلت طور التنفيذ بقوة السلطة وسلطة القوة، فتم البحث عن غلاف ديمقراطي شيك لها مثل ورق "السلوفان" لتغليفها به ليخدع المصري نفسه بهذه البضاعة الفاسدة ويقبل بما روجت له حاشية جمال من مسئولين وسياسيين وكتاب وإعلاميين وحتى بعض المحسوبين على المعارضة من أنه مواطن كأي مواطن مصري آخر ومن حقه الترشح وفقا للدستور والقانون وطالما أن هناك تنافسية وصناديق شفافة فإننا يجب أن نسلم بحكم الصندوق . لم يكن هذا الأمر وفق هذا التحليل له علاقة بأي آليات ديمقراطية متعارف عليها دوليا لأن الدولة كلها كانت ملك يمين جمال مبارك، وكانت كلها مسخرة لخدمة أهدافه وطموحاته ومخططه للتوريث المباشر أو عبر ستار الديمقراطية المزيف المصنوع خصيصا على مقاسه، وما أكثر" الترزية " و"المحللين " في مصر، وما أكثر من كانوا مستعدين لتنفيذ الخدعة الكبرى ترشيحا وتصويتا ودعاية وإخراجا ونفاقا ورقصا وفرحا. لولا ثورة 25 يناير لكنا الآن بين سندان الرئيس الأب المريض الذي لم يعد يدري شيئا عن مصر وبين مطرقة الرئيس التنفيذي الابن ورجاله الذين يبيعون البلد بالمتر ويستعدون للسطو على الكرسي في أخطر عملية نصب في تاريخ مصر حتى يستمروا في التغطية على أكبر جريمة يرتكبونها في حق مصر. تلك الثورة التي صنعها وشارك فيها الشعب المصري كله جاءت في لحظة قدرية فارقة لتنقذ ماتبقى من مصر التي كادت تفنيها عصابة الحكم البائد. الآن.. هل يندم جمال على أنه دخل اللعبة السياسية من الأصل لأن حياته وصلت إلى نهاية مأساوية بالإذلال والمهانة وسقوط الهيبة المزيفة ؟. وهل يقر بالكوارث التي ارتكبها في حق مصر والمصريين ؟. وهل يعترف بذنوبه السياسية وممارسة النهب للمال العام هو وشقيقه الأكبر علاء دون وازع من قانون أو ضمير أو أخلاق ؟. وهل يعترف بينه وبين نفسه بأنه أجرم بحق البلد والشعب الذي كان يريد أن يرثه؟. والآن.. هل يندم الرئيس المخلوع أنه كان حتى وقت قريب رئيسا لبلد عظيم وشعب عريق لم يقدره حق قدره فكانت هذه النهاية المأساوية له ولنظامه؟. هل يدرك انه لم يكن جديرا بحكم هذا البلد لأن إمكانياته وقدراته غاية في التواضع لم تكن تؤهله لحكم جمهورية موز؟ , هل يملك شجاعة الاعتراف بأنه تحول من حارس أمين على دولة إلى حارس غير أمين على مغارة، فنهبها هو وعصابته بكل فحش ؟. هل يشعر بالندم والخزي والعار على الحالة التي أوصل إليها مصر وشعبها بعد أن حول السلطة إلى بحيرة فساد تنشر روائحها النتنة وفضائحها يوميا؟. هل يدرك الآن أن 30 عاما من صولجان الحكم لاتساوي يوما واحدا له من ذل الحبس حتى لو كان في مستشفى خمسة نجوم؟. هل لو عاد به الزمن إلى عام 1981 سيكون صادقا مع نفسه ويختار أن يكون سفيرا في لندن أو باريس عدة سنوات للراحة والنزهة - وهذه كانت أقصى أمانيه - وليس رئيسا لأقدم دولة موحدة في التاريخ بعد نهايتة غير الكريمة ؟ . والآن.. هل تندم سوزان ثابت لأنها عاشت السنوات العشر الأخيرة وليس لها هدف غير توريث جمال لكرسي والده باعتبار أن مصر أصبحت ملكية لآل مبارك بعد سقوط ملكية محمد علي قبل نحو 60 عاما؟. سوزان الآن في أتعس حالة يمكن أن تعيشها زوجة وأم, عندما ترى المجد والسلطان قد زال من حولها، وعندما ترى زوجها رئيسا مخلوعا بغير إرادته يعيش المرض والسجن والفضيحة ، وعندما ترى نجليها في السجن, ويقال أنها أصيبت بالهزال والشحوب ودموعها لاتفارق عينيها, فلتذق - إذن - هي وزوجها وأولادها لمحة واحدة مما أذاقوه لملايين المصريين طوال ثلاثة عقود من الجحيم .مبارك كتب بنفسه أسوأ خاتمة لنفسه في كتاب حياته .ولعله يبقى درسا أبديا لكل من يرأس مصر بعده . مصرعلى مفترق طرق الان, يجب أن تعي وقع وحركة أقدامها وأين تتجه لتنهض من جديد, بشرط ألا يكون المصريون قد خلعوا ديكتاتورا, ليولد بدلا منه ألف ديكتاتور .