يوصينا الإسلام ألا ننهار أمام الشدائد والمحن، أو نتهور ونندفع فى طيش وعشوائية ومجازفة مجهولة العواقب، وإنما نواجه ذلك بالثبات والتماسك، وجعل للثبات وسائل مادية (أسباب) ووسائل إيمانية حتى يخرج المؤمن بسلام من كل شدة ومحنة. فقه الثبات: الثبات قوة فى التحمل، وعدم انهيار عند المفاجأة، وإنما تماسك وصمود وقدرة على المواجهة، وصبر على المكاره. ويوصف الإنسان بالثبات إذا استقر رأيه واطمأن لوجهة محددة، ولم يتحير أو يتردد إذا فاجأه ما يزعج، قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران/173]. وقد أمرنا الله عز وجل باتخاذ وسائل للثبات والقوة فى مواجهة المحن: وسائل تحقيق الثبات: الوسائل المادية: 1- القوة؛ فالضعيف لا يثبت أمام القوى، لذلك أمرنا الله بالتزود من القوة بكل طاقتنا، وأمرنا أن نستنفد كل ما فى وسعنا من الإعداد والتدريب والأخذ بأسباب القوة، قال الله تعالى: {أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال/60]. 2- العمل والإنتاج؛ فالفقير لا يثبت أمام الغنى، لذلك حارب الإسلام الفقر عن طريق العمل والزكاة والتكافل الاجتماعى، ولنا أسوة حسنة فى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف حوَّل الرجل السائل القادر على العمل إلى طاقة إنتاجية، حين باع النبى صلى الله عليه وسلم متاعه واشترى له أدوات العمل، وحوله إلى طاقة منتجة. 3- العلم؛ فالجهل لا يثبت أمام العلم، لذلك حثنا الله عز وجل على العلم، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة/11]. 4- التماسك والوحدة؛ فالتشتت لا يثبت أمام الاتحاد، لذلك أمرنا الله عز وجل بالتكتل والاعتصام، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران/103]. وأما الوسائل الإيمانية: فقد جمعها الله فى آية سورة الأنفال قوله: : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال/45]. ولا يخفى على وعى المؤمن أثر الذكر فى تقوية القلب بما ينزل عليه من سكينة وطمأنينة واستقرار نفسى يتيح للمؤمن أن يتعامل مع الأزمة بعقل وحكمة، فيقرأ الواقع قراءة صحيحة، ويقف على ميزان القوة لدى عدوه، ويدرك أسباب الخلل وكيف السبيل إلى تداركها. ولقد عرفت الأمة فى أوقاتها المعاصرة الذكر اللسانى القولى، فالواحد يجلس ويقول مائة مرة، أو ألف مرة: سبحان الله، والحمد لله، والله اكبر، ونحو ذلك، وهذا طيب، وهذا مطلوب، ولكن ينبغى أن يفهم المؤمن أن ذكر الله لا يقتصر عند حد الذكر اللسانى القولى، وقد بينت كتب التفسير وكتب اللغة، أن القرآن الكريم أرشد إلى دلالات كثيرة من معنى ذكر الله عز وجل، من بينها الذكر العملى بإحياء هدى القرآن الكريم وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحين تكمل فينا الأسوة والقدوة نكون من أهل الذكر الحقيقى. فمثلاً فى العمل حينما نتكلم عن معايير الجودة فى الإسلام، فهى لون من ألوان الذكر العملي، وحين نعرف معنى الإتقان فى العمل، فهذا لون من ألوان الذكر العملى أيضًا. أن يكون لنا الاكتشاف العلمى والمصالحة مع كون الله عز وجل الذى وصلنا الله به، فإن التخلف العلمى جريمة فى حق المسلمين فى حياتنا المعاصرة، فالذكر العملى يمتد إلى هذه الشئون كلها. ثم يقول ربنا جل جلاله مبينًا أسباب التماسك وعدم الانهيار أمام الشدائد والمحن قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال/46]. وإذا أحبت الأمة أن تجتمع على شيء يجمع شملها ويوحد أمرها، فهو القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تبتعد الأمة عن التنازع والفرقة والخلاف. فكفانا تفرقًا، وكفانا تمزقًا وتشتتًا، إن أهل الباطل اصطلحوا واجتمعوا على باطلهم، فأولى بأهل الحق أن يتحدوا لحماية حقهم وصيانته، يقول الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} أى تضعفوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أى قوتكم. ثم يقول لنا ربنا عز وجل فى التوجيه الأخير: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} والصبر هنا ليس كما يفهم البعض أنه شيء سلبى كالاستسلام ونحو ذلك، إنما الصبر قوة فى التحمل لإنجاز طموحات وآمال الأمة، وقوة فى التماسك وعدم الانهيار أمام الفتن والأعداء. هكذا يوجهنا الله تبارك وتعالى إلى أسباب النصر كى يتأتى للأمة أن تكون فى المقدمة. إن المحن البشعة التى تصيب الأمم يتخذ منها العقلاء دافعًا للتصحيح، وينبغى للأمة أن تهتدى بهدى القرآن الكريم، وأن تعمل بأسباب النصر التى أمر الله عز وجل بها، فالقرآن موجود ورب القرآن موجود، والسنة موجودة، والذى غاب عن منظومة التفوق ومنظومة التقدم هو الإنسان. القرآنى الذى يعمل بالقرآن ويتخلق بالقرآن، ويتأدب بالقرآن، ويتأسى بنبى القرآن صلى الله عليه وسلم. مواقف الأنبياء فى الثبات: 1- موقف النبى صلى الله عليه وسلم والذين معه بعد غزوة أحد حين أرسل إليهم أبو سفيان أنه سيرجع إليهم بعد حشد الحشود كى يستأصلهم عن آخرهم فلما بلغتهم الرسالة قالوا كما قص القرآن علينا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران/173]. ورجع أبو سفيان ولم يحاربهم. 2- موقف النبى صلى الله عليه وسلم فى الغار، قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة/40]. 3- موقف النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه جابر رضى الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذات الرقاع، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ظليلة، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه المشرك وقال: من يمنعك منى؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الله». فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فقال: «من يمنعك منى؟» فقال المشرك: كُن خير آخذ. فقال صلى الله عليه وسلم: «تشهد أن لا إلا الله، وأنى رسول الله ؟» قال: لا، ولكنى أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى النبى صلى الله عليه وسلم سبيله، فأتى الرجل أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس. 4- موقف نبى الله موسى عليه السلام حين حاصره جيش فرعون فكان البحر أمامه وجيش فرعون من خلفه، فقال له قومه: إنَّا لمدركون، إمَّا أن يصيبنا الغرق فى البحر، وإما أن يهلكنا جيش فرعون ويقضى علينا، فكان الثبات من سيدنا موسى عليه السلام ليقينه فى الله تعالى وتوكله عليه، فأجابهم قائلاً: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء/62]. 5- موقف سيدنا إبراهيم عليه السلام لما ألقاه قومه فى النار، فقال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران/173]. 6- موقف سيدنا يعقوب عليه السلام ومصابه فى ابنه يوسف عليه السلام وأولاده، وصبره وقوله لهم: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف/18]. وأمله الكبير فى الله عز وجل وشدة يقينه فى فرج الله بعد اشتداد الكرب وسجن ابنه الثانى، وهذا أعلى درجات اليقين والإيمان بالله، وكلما ازدادت المحنة ازداد الأمل فى وجه الله, وبعد مُصَابه فى ابنه الثانى قال عليه السلام: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف/83]. مواقف المؤمنين فى الثبات: 1- عند مواجهة الأعداء تكرر سؤال الثبات من الله، انظر إلى قوله عز وجل {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة/250]. 2- موقف أم سلمة – رضى الله عنها – لما مات عنها زوجها أبو سلمة، وقولها: ومن خير من أبى سلمة؟ فتزوجها النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: لقد أبدلنى الله خيرًا. 3- علمنا القرآن الثبات فى مواجهة الشدائد والمحن، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة/156-157]. 4- قول المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لم تصب بمصيبتى، عندما مر عليها النبى صلى الله عليه وسلم وهى تبكى جزعًا أمام قبر ابنها، فأمرها أن تكف عن البكاء وتصبر وتحتسب، فلم تستجب له، فلما عرفت أنه النبى صلى الله عليه وسلم قالت: أنا صابرة يا رسول الله، فأجابها النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». 5- ومواقف الصالحين كثيرة، لو تقصينا مواقفهم ما انتهينا. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ