بعض الظواهر التي شهدتها في هذه الحياة مازالت تستعصي على عقلي ويصعب علي ان أفهمها. رأيت في كندا أناساً من ذوي اللحى الطويلة كانوا يسكنون بالقرب مني، التقيت بهم في المسجد في صلاة العيد وعرفت أنهم من الاسلاميين المتشددين الذين تجمعهم الأفكار حول أهمية اجتماع المستضعفين في بقعة بعيدة من الأرض والبدء في الدعوة لدين الله الحق بعيداً عن البيئات الطاردة التي خرجوا منها. كان يثير دهشتي ان هؤلاء الناس ليس من بينهم من يجيد اللغة الانجليزية أو يحاول ان يتعلمها، وليس من بينهم من يسعى الى التفاعل والاندماج في المجتمع الذي هاجروا اليه.. بالعكس كانوا يغلقون الحياة على أنفسهم في مجتمع ضيق وينظرون للكنديين على أنهم كفار يتعين الابتعاد عنهم اذا عجزنا عن هدايتهم وضمهم الى الجماعة. ما كان يدهشني لدرجة الذهول هو: ما الذي يدعو الناس الى ترك بلادهم واللجوء الى بلاد لا يحبونها والعيش والاستقرار فيها وهم يحملون لأهلها طول الوقت شعوراً بالنقمة والقرف؟.. ألا تستحق منهم هذه البلاد التي استقبلتهم بالحنان والرحمة وطيبت خواطرهم وداوت جراحهم أي عرفان أو حب؟ ولماذا يأتون اليها اذا كانت معاييرها في الحياة لا توافق معاييرهم، وهو ما يضطرهم الى اعطائها ظهورهم والوجود بها دون الحياة فيها؟.. سيقول قائل ان هؤلاء الناس معذورون، فقد فروا بدينهم ومعتقداتهم من بلاد مستبدة حكمها حفنة من رجال العصابات أمثال مبارك والأسد والقذافي وبن علي، ثم لم يجدوا أحنّ عليهم من البلاد التي يسمونها بلاد الكفر والضلال فسكنوها على مضض وقد عزموا ان يجتنبوها ليتقوا شرور ومفاسد الحياة فيها. و لكن هنا يبرز أكثر من سؤال بعضها منطقي وبعضها أخلاقي.. من الأسئلة العقلانية سؤال يتعلق بالبحث العلمي والتطور التكنولوجي والتقدم البيئي.. هل كل هذه مفاسد يتعين الفرار منها وتحذير الابناء والبنات من شرورها لدرجة رفض تعليمهم اللغة الانجليزية التي قد تسمح للعلم والمعرفة بالتسلل اليهم؟. ومن الأسئلة الأخلاقية تساؤل حول مشروعية ان تبتز مشاعر قوم وتستفيد من تعاطفهم وحنان قلوبهم، وتظل تعرض مأساتك على منظماتهم وجمعياتهم حتى يتبنوا موضوعك ويسمحوا لك بالعيش في بلادهم ويمنحوك مسكناً وجُعلاً مالياً كل شهر، فضلاً عن حصة تموين شهرية من دقيق ولبن وسكر وزيت.. آه والله.. ثم بعد ذلك لا يؤثر فيك كل ما فعلوا وانما تتعامل معه باعتباره فطنة من جانب المؤمنين في استغلال غفلة الكفار والاستفادة من نقاط ضعفهم!.. ان أحداً لم يطالب مَن فر من الاضطهاد وهاجر الى بلد غريب بأن يعتنق أديان من لجأ اليهم ولا ان يحذو حذو الجانحين والشواذ من أبناء تلك البلاد.. لكن مطلوب ألا يقمع انسانيته، وان يسمح لمشاعر الامتنان ان تظهر على وجهه وهو يتحدث عمن أووه وأطعموه وآمنوه من خوف!. وسؤال اضافي آخر لم أتوصل لاجابته هو: لماذا اختاروا بلاد الكفر والضلال ولم يلوذوا بديار الاسلام حتى يعيشوا في تبات ونبات ويخلفوا صبيانا وبناتا يكونون في حالة توافق مع الحياة ولا يشعرون بالغربة أو بالوحشة وسط أقوام مختلفين عنهم في كل شيء.. وهنا من الطبيعي ان يأتي الرد بأن بلاد المسلمين لا ترعى في المسلمين الاَ ولا ذمة وان العيش بها يحمل مخاطر جسيمة على من يحمل في داخله مشروعاً اسلامياً أو يحلم بالحياة على نهج السلف الصالح، وقد يضربون لنا أمثالاً بما فعله الأسد الأب والابن في الاسلاميين بدءاً من مجزرة حماة وحتى مجازر اليوم أو بما فعله مبارك من تنكيل بالاسلاميين طوال فترة حكمه اللعينة أو بما فعله صدام والقذافي وباقي الارهابيين من حكام بلاد العرب والمسلمين. كل هذا معروف ومنطقي لكن هناك أمثلة لبلدان لا يتحدث عنها الاسلاميون الا بكل الخير والحب مثل السودان وأفغانستان.. ما الذي يمنع هؤلاء المؤمنين من الفرار بدينهم الى هذه البلاد حيث القوم ذوو لحى والنساء منقبات ولهم نفس ما لهؤلاء من آمال وأحلام، وحيث التلفزيون الرسمي لا يبث الا الأشياء التي يحبونها؟ لماذا لا يفرون الى هناك حيث يلقون الصحبة المناسبة ويساهمون في دعم المجتمع الاسلامي الذي يحلمون بتأسيسه؟ لماذا يتركون البيئة الطبيعية المخلوقة من أجلهم ويذهبون الى مجتمع ينكرونه منذ اللحظة الأولى؟ سألت واحداً منهم هذا السؤال فأجابني بأن لديهم أسبابهم التي ليس من حق أحد الاطلاع عليها!. نقلا عن صحيفة الوطن الكويتية