«ابتسامة علي شفاه معوجة» كان عنوان ما كتبته هنا الأربعاء الماضي، حول مشهد واقعي لتعامل معلمة هولندية مع طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكيف احتوت غضبته وضربه لها بالحنان والحب، حب حقيقي غير مدفوع الثمن، لوجه الله والإنسانية، وقد تلقيت ردود أفعال هائلة عبر الهاتف والبريد الإلكتروني علي المشهد الذي أوردته من أسر لأطفال معاقين ذهنياً وبدنياً، سردوا خلالها معاناتهم القاسية مع أطفالهم بسبب انعدام الرعاية الحكومية لتلك الفئة المهمة من أبناء مصر، منهم طبيبة صيدلية، اخبرتني عن مأساتها مع ابنتها التي ولدت بإعاقة ذهنية، وكيف أدي تأخر أساليب العلاج في مصر وانعدام دعم الدولة إلي تأخر حالة الطفلة، حتي صارت الآن شابة في السابعة عشرة من العمر معاقة بشكل كامل بدنياً وعقلياً، وتجد الأم المسكينة الأمرين في إطعامها وشرابها، ونقلها من مكان إلي آخر، ومأساة حملها إلي دورة المياه، وكثيراً ما تفشل في مساعدتها في عدم وجود الأب، فتقضي البنت حاجتها في ملابسها، لتعيش الأم أوقاتاً قاسية أخري لتنظيفها. قالت لي الأم بصوت خنقته الدموع: لقد تعذبنا، أنفقنا عليها كل ما استطعنا لعلاجها دون جدوي، حتي بت أتمني لها الموت، لأنني أخشي عليها من بعدي، فمن سيرعاها، فلا توجد في مصر مؤسسة يمكن أن ترعي أمثالها بصورة إنسانية مجاناً.. هذه قصة من ملايين القصص التي تعيشها أسرنا المصرية مع أطفال معاقين بديناً أو ذهنياً، فهؤلاء لا يجدون يد العون الحقيقي من الدولة، وعليهم تحمل نفقات العلاج والرعاية لأطفالهم، وهي تكلفة لا تقوي أي أسرة علي تحملها، علي نقيض ما يحدث تماماً في أي بلد آخر وفي مقدمتها أوروبا. ويجب أن أشير أولاً إلي أن اهتمام الأوروبيين برعاية وتأهيل المعاقين بدأ منذ الحرب العالمية الثانية بصورة حقيقية، وقبل هذه الفترة، كان يتم اعتبار تلك الفئة عالة علي المجتمع ومصدر شؤم وبلاء، ولكن اتضحت قيمة المعاقين إبان الحرب، عندما قامت دول أوروبا بتعبئة القوي العاملة التي لديها القدرة علي القتال للمشاركة في الأعمال الحربية، وتسبب هذا في إحداث فراغ كبير بأسواق العمل، فلم يتبق سوي المسنين والنساء والمعاقين للقيام بالأعمال الإنتاجية لتأمين احتياجات المجتمع وسد مطالب المقاتلين بها، وكان لا مفر من تأهيل المعاقين لسد هذا الفراغ في أماكن العمل، ولعجائب خلق الله وقدرته، أثبت المعاقون قدرات غير متوقعة في التدرب والتأهل للعمل، والمساعدة في عمليات الإنتاج أثناء الحرب، ومنذ ذلك الحين تغيرت نظرة الأوروبيين لتلك الفئة، وحولت الحرب بلاء المعاقين إلي نعمة، وخلقت معها نظرة إيجابية تم تفعيلها للعمل علي تنمية قدراتهم واستثمار طاقتهم للاستفادة بهم بصورة مستدامة كجزء مهم يتكامل مع المجتمع ولا يجب الاستغناء عنه بنبذه وتهميشه. وأصبحت برامج رعايتهم وتأهيلهم من أوليات العمل الرسمي الحكومي والشعبي في دول أوروبا، وتقديم رعاية متميزة لهذه الفئة بصورة مجانية علي نفقة الدولة، وما تعجز عنه الدولة تقدمه المؤسسات الأهلية، لتوفير مجموعة من الخدمات والأنشطة الاجتماعية والنفسية والطبية والتربوية والتعليمية والمهنية التي تمكن المعاقين من ممارسة حياتهم باستقلالية وكرامة، كما تم دمج المعاقين في المجتمع عبر توفير فرص التعليم والعمل، ودمج التلاميذ ذوي الحالات غير المعقدة في المدارس العادية، إذ يساعدهم ذلك علي تجاوز الكثير من إعاقتهم والتحول إلي أشخاص شبه طبيعيين، كما يتم توفير المدارس والمراكز ودور الرعاية المجانية أو ذات التكلفة البسيطة، وتكون مجهزة بأحدث الأجهزة، ومنها ما يتم إعداده لإيواء الأطفال ذوي التخلف الشديد إيواء كامل، أو إيواء جزئي، وتنمية وتشجيع الميول والمهارات لديهم مما يساعدهم علي إثراء حياتهم وشغل أوقات فراغهم. ولا يقتصر الاهتمام بهم في التعليم والتأهيل للاعتماد علي النفس، بل أيضاً يتم توجيه قدراتهم وتنميتها ليتمكنوا من العمل مستقبلاً في حرف تتلائم مع قدراتهم العقلية والجسدية، هذا بالطبع إلي جانب قوانين العمل التي يتم تطبيقها بصرامة، والتي تجبر كل المؤسسات وأصحاب العمل علي تشغيل نسب محددة من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتشجع هذه الدول علي إنشاء الجمعيات التعاونية والإنتاجية للمعاقين وإقامة المعارض والندوات التي تبرز أنشطتهم ومشاركتهم المهنية، كما يتم وضع تشريعات وسياسات خاصة تستهدف ضمان حقوقهم وتقديم أفضل الخدمات لهم، والقضاء علي جميع أشكال التمييز ضدهم، ومنحهم ومرافقيهم تخفيضات بنسبة تزيد علي 50% في وسائل النقل داخل الدولة أو خارجها، ومنحهم تسهيلات وإعفاءات جمركية للأجهزة والأدوات المساعدة التي تسهل لهم الحركة والحياة الطبيعية، ودعم أسرة المعاق مادياً ومعنوياً وتزويدها بالمعلومات والتقنيات الحديثة اللازمة لتطوير تعاطيها مع احتياجات الطفل، وضمان التمثيل للأشخاص المعاقين في المجالس النيابية وفي المجالس المحلية وعلي كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإصدار بطاقة للمعاقين مع بيان يوضح أوجه استعمالها، وتأمين حقه في ارتياد الأماكن العامة العلمية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها، وإعفاء سياراتهم والأجهزة التعويضية الخاصة بهم من الضرائب الجمركية.. وغيرها الكثير، فأين أبناء مصر ذوو الاحتياجات الخاصة من كل هذا؟