لا تحدثنى عن القانون، فالقانون هو أى شيء أكتبه بيدى على نفاية من ورق. هكذا صاح الرئيس العراقى الراحل «صدام حسين» فى معاونيه وأركان نظامه، فى سياق المسلسل الروائى التليفزيونى المكون من أربع حلقات، الذى أنتجته قناة «بى بى سى 2» البريطانية بالاشتراك مع شركة الأفلام «اتش بى او» الأمريكية، عام 2008 بعنوان «منزل صدام» وبثته فضائية الحياة المصرية، على امتداد الأسابيع الأربعة الأخيرة فأتاحت بذلك لكثيرين مثلى فرصة مشاهدته، ممن لم يتمكنوا من متابعته حين تم عرضه قبل أربع سنوات على القناة البريطانية. وفى قلب هذا المعنى الذى يعصف بدولة القانون، ويدهس بالأحذية على أركانها، تقوض نظام صدام حسين، وتزلزلت أركان دولته التى كانت مؤهلة بحكم ثرواتها النفطية والطبيعية والبشرية، وتنوعها العرقى والثقافى والدينى والمذهبى والسياسى أن تتقلد موقعا متميزا على خارطة بلدان العالم المتقدم، لكن الاستبداد واحتكار السلطة والطغيان، قادها على امتداد عشر سنوات الى حرب أهلية لا يعرف احد متى تطفأ نيرانها! يتناول المسلسل الذى أخرجه «هولمز اليكس» وشارك فى كتابته مع «ستيفن بوتشارد» خلال أربع ساعات، قصة حياة الرئيس صدام حسين على امتداد 25 عاما من حكمه، والقسوة المفرطة التى عامل بها خصومه وحتى شعبه، والتشققات التى حدثت فى أسرته، منذ توليه السلطة عام 1979، وحتى إلقاء القبض عليه وإعدامه عام 2006، بعد محاكمات وصفت بأنها كانت تفتقد أركان العدالة. أسرف المسلسل فى سرد العوامل النفسية والشخصية التى تحكمت فى تشكيل شخصية «صدام حسين» وصنعت منه طاغية وديكتاتورا، حين تجاهل عن عمد أو جهل الجانب الآخر من الصورة التى ساهم فى رسمها الواقع الدولى الذى تهيمن عليه قوة واحدة غاشمة لا تهتم سوى بمصالحها، حتى لو اطاحت بدول ،وضحت بشعوب، وواقع إقليمى ومحلى تحرك أطرافه هى نفسها طبقا لتلك المصالح، لقد شجعت الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الغربية صدام على تحطيم الثورة الإيرانية كما شجعوه من طرف خفى على غزو الكويت، كى يستدرجوه، ويضربوه، ثم يلفقوا له فيما بعد تهمة حيازة أسلحة دمار شامل، كى يغزوا العراق ويحتلوه ويقلبوا نظامه ويستولوا على ثرواته. كان لدى صدام حسين فى شبابه رؤية أن ينقل قيادة الأمة العربية الى العراق، وأن يخلف جمال عبدالناصر، ثم ما لبث أن تداخلت الأمور فى بعضها البعض، وأصبح بقاؤه فى السلطة هو الوطن وهو الأمة، وهو الأساس الذى يحمى من وجهة نظره مصالح هذه الأمة، ثم أصبح بقاؤه فى السلطة، هو الهدف الأول والأخير، الذى يستحق كل تضحية.. بالأسرة وبالحبيبة وبالوطن! يمزج المسلسل الذى صورت معظم مشاهده فى تونس، واستغرق إعداده عامين بين العمل الروائى والتسجيلى، حيث كون المخرج «اليكس هولمز» فريق عمل اجرى لقاءات صحفية مع عدد من الأشحاص الذين عملوا مع صدام حسين أو يعرفونه شخصيا، وقد تمكن هذا الفريق من إرسال أسئلة الى صدام فى سجنه عبر محاميه، لكنه رفض الإجابة عنها، والأغلب الأعم أن فريق المخرج اعتمد كثيرا على اجابات صدام حسين عن أسئلة المحققين معه، أثناء محاكمته، وعلى لقاءات مطولة مع «طارق عزيز» فضلا عن الكتب التى سردت قصة حياته قبل وبعد الغزو الأمريكى واشترك فى تمثيله خمسة من الممثلين التونسيين، وممثل مغربى، فضلا عن الممثل المصرى «عمرو واكد» الذى جسد دور زوج «رغد» حسين كامل المجيد، بينما جسدت الممثلة الامريكية من أصل إيرانى «شهيرة اجداشلو» دور زوجته ساجدة، وأظن أن إسناد دور صدام حسين الى الممثل الإسرائيلى من أصل عراقى «ايجال ناعور» والذى أداه ببراعة فائقة، هو الذى صنع حاجزا بين تذوق عناصره الفنية المتميزة، وبين المتفرج العربى فى كل مصر وتونس، وهما البلدان العربيان اللذان تسبب إذاعة المسلسل فيهما في سجال حاد بشأنه، توقف طويلا حول جنسية الممثل الإسرائيلى، كمبرر للهجوم عليه، وعلى رفض مشاركة ممثلين عرب به، دون إعطاء أدنى أهمية لمعرفة ما يقوله الغرب عنا، ودون توقف امام، براعة المسلسل، وتكامل أدواته الفنية، فى رسم معالم تطور شخصية الحاكم الطاغية، المولع بالسلطة، المستبد بها، وهو يأخذ قرارات بقلب بارد بإقالة رئيس الجمهورية «أحمد حسن البكر» ليحل محله، وبقتل رفاقه المقربين فى قيادة حزب البعث بعد إلصاق مؤامرة مزعومة بهم، وهو يمحو مدينة «الدجيل» بأهلها بعد تعرضه لحادث اغتيال بها، وهو يطلق امرأة متزوجة من زوجها ليتزوجها، وهو يذهب ببلده الى حرب عبثية مع إيران، وهو يقتل شقيق زوجته فى حادث طائرة مدبر، وهو يحرض على قتل زوجى ابنتيه. فى حوار له مع احدى الصحف البريطانية قال مخرج المسلسل «اليكس هولمز» حينما اطلعت على قصة صدام حسين، وجدت عناصر مشابهة فى مسرحيات شكسبير التاريخية، وفى أفلام العصابات، فصدام والأفراد الذين عاشوا فى فلكه، بمن فيهم ابن متمرد، زوجة فاتنة، وصهر غير مخلص، ورفيق مطيع، أصبحوا أكثر فأكثر منفصلين عن الواقع، وأصبحت أفعالهم أكثر فأكثر غريبة للعالم الخارجى. لقد نجح المسلسل بممثليه واضاءته الموحية والمكثفة، وبقصوره الشاهقة المليئة بكل شىء والخاوية من المشاعر فى تصوير هذه الأجواء المثيرة الغامضة والمرعبة والأسطورية، وفى حمل رسالته، أن الطغاة يجلبون الغزاة، وأن بلدا يزدرى حاكمه القانون، هو بلد ضائع لا محالة.