كان عمر "سلمى" 4 سنوات عندما سألت والدتها: "لماذا لا يتصل أبي ولا يحاول أن يأتي لزيارتي كالعادة؟"، فردت والدتها: "هو مسافر"، فقالت "سلمى" متضايقة: "لا.. هو مش مسافر، أنا عارفة إنه موجود هنا في القاهرة.. هو مش عايز يشوفني؟"، ثم استطردت وسألت والدتها: ماما إحنا ممكن نرجع عند بابا تاني ولا انت ممكن تتزوجي رجل تاني؟" أسقطت في يد والدتها.. ما هذه الأسئلة الصعبة التي تسألها تلك "البنوتة" ذات الأربع سنوات. القصة الحقيقية لسلمى هى أن والدها بالفعل لم يكن مسافرا، وبالرغم من حبه الشديد لها ومن التزامه الصارم بدفع كل تكاليف حياتها وكل ما تطلبه والدتها منه لأجلها، إلا أنه بالفعل امتنع عن زيارتها ورؤيتها، فوالدتها سيدة متعنتة تريد أن تتسلط على طليقها وتقوم بإذلاله فلا تجعله يرى ابنته إلا بصعوبة شديدة وفي حضرتها، وأن يكون ذلك في مكان عام ولمدة محددة وقصيرة لا تفِ بأن يتعرف على ابنته في هذا السن الصغير ويتمتع بها وتتمتع به. ولأنه رأى أن الرؤية بهذا الشكل مؤذية لمشاعره ولمشاعر ابنته التي لا تلبث أن تتعلق به خلال تلك السويعات البسيطة ثم تبتعد عنه مدة طويلة حتى تسمح الوالدة بالزيارة التالية.. فهذا كله جعله يرحم نفسه ويرحم ابنته من هذا الذل الخاص بنظام الرؤية السيء حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. ولأن سلمى ليست الضحية الوحيدة لانفصال الوالدين.. كانت فائدة قوانين الطفل التي تنظم رؤية وحضانة الأطفال بدقة متناهية، والتي من المفترض أن تضع في الاعتبار مصلحة الطفل أولا وأخيرا والتي قد يغض الطرف عنها بعض الآباء والأمهات المنفصلين من أجل تخليص حسابات قديمة مع هذا الأب أو تلك الأم. والسؤال الآن هل بالفعل حققت القوانين الوضعية، التي خرجت من عباءة نساء السلطة، مصلحة الطفل التي تتغنى بها الأمهات ؟ وهل التعديلات المقترحة بتحويل الرؤية لاستضافة يومين في الأسبوع هي الحل الأمثل الذي يعالج قصور هذه القوانين ويصب في مصلحة الأبناء كما يدعي الآباء؟ لفض هذا الخلاف كان لزاما أن نعرض لآراء الخبراء الاجتماعيين والنفسيين والتربويين لمعرفة الطريقة المثلى للتعامل مع هذه القضية الشائكة، ولإلقاء الضوء على بعض النقاط المهمة التي قد يسترشد بها القائمون على وضع هذه القوانين وتعديلاتها لتحقيق مصلحة الطفل، آخذين في الاعتبار وجهتي النظر لكل من الآباء والأمهات. رؤية متدنية تقول وفاء أبو موسى، الأخصائية النفسية والمهتمة بالشأن التربوي،: بشكل تربوي أرى أن التعديلات الجديدة عادلة للطرفين بصورة أكبر من القانون القديم سواء بالنسبة للأم أو الأب، كما أننا نعلم أن الطلاق وانفصال الوالدين يشكل كارثة اجتماعية للأبناء لأن مصدر أمنهم النفسي والاجتماعي هو الوالدين، نحن لا ننكر سلبيات انفصال الوالدين التي لا تنتهي بتطبيق القانون الجديد، لكنه "بلاء أخف من بلاء". تضيف موسى: لو حاولنا دراسة الأمر من الناحية الشخصية للطفل، سنرى أنه في القانون القديم يتم النظر لمن معه حق رؤية الطفل بنظرة متدنية، فكيف يكون والده ويسمح له فقط بمرافقته في مكان عام؟ وكيف تكون والدته ولا يسمح لها بالاختلاء به لتمنحه عطف الأم بارتياح ودون رقيب؟ وتؤكد موسى أن القانون القديم ينشئ العديد من المشاعر السلبية للوالدين، ويمنح الحضانة بصورة تجعل المحتضن صاحب سلطة تدفعه أحيانا للانتقام من الآخر من خلال هذه السلطة المستمدة من القانون، وهذا يزعج الأبناء حتى لو لم يعبروا عن هذا الانزعاج، أما الاستضافة فتمنح الحاضن والطرف الآخر والطفل الإنسانية في التعامل والعدالة في مواجهة أزمة الطلاق وهذا ينعكس على جميع الأطراف بإيجابية ويحد من سلبيات الانفصال. استضافة واجبة من جانبها تنبهت د.نعمت عوض الله، الخبيرة في الشئون الاجتماعية، إلى نقطة غاية في الأهمية وهي الخاصة بسن الطفل فتقول: بالنسبة للرؤية، أعتقد أن المشرع وضع في حساباته فقط الأبوة البيولوجية والإنفاق لترتيب موضوع الرؤية، ولم يقم بسؤال أي متخصص تربوي أو نفسي. ربما لو قام بتحديد سن معين يبدأ بعده موضوع الخروج والمبيت لمدة 48 ساعة لأصبح الوضع مفهوما، وهذا السن هو فعلا سن الثامنة. قبل هذه المرحلة لا يستطيع الطفل استيعاب سبب عدم تواجد الأب والأم معا، ومهما قام الطرفان بالشرح والتوضيح تظل الفكرة غائمة ومبهمة في ذهنه؛ لأنه طفل دون سن إدراك المعنويات والمحسوسات ولا يستطيع أن يفهم إلا ما هو مادي ملموس، إذن خروجه للمبيت وحده مع أبيه سيؤدي إلى مشاكل نفسية كثيرة تختلف باختلاف شخصيته وطبيعته. وإذا أضفنا إلى ذلك أنه غالبا يكون هناك مشاكل بين الطرفين وأن أحدهما يعمد إلى تشويه صورة الآخر، فلنا أن نتصور كم الضرر النفسي والمعنوي الذي سيقع على الأطفال، أما بعد هذا السن يصبح الأمر مختلفا ومن الممكن بل من الضرورى أن تزداد المساحة المخصصة لاحتكاك الابن بأبيه والمبيت في منزله دون مخاوف من حدوث أي مشاكل. بالاتفاق ومن جهتها تقول د. دعاء راجح، الخبيرة الاجتماعية،: شخصيا أرى أن الاستضافة أو الرؤية تتحدد أفضل باتفاق الطرفين الأب والأم معا، ويعتمد ذلك على ظروف كل حالة على حدة. فبالنسبة للأم من المفترض أن يتحدد أي الأسلوبين أفضل بناء على ما إذا كانت متزوجة أم لا؟- إن كانت امرأة عاملة أم متفرغة لأبنائها؟- مدى ارتباطها بأبنائها وارتباط الأبناء بها. كذلك بالنسبة للأب يجب مراعاة إن كان متزوجا أم لا؟- يعمل في نفس البلد أم مغتربا؟- مدى ارتباط الأطفال به ومدى ارتباطه بهم؟. كما يعتمد ذلك على حال الأطفال أنفسهم ومدى ارتباطهم بالطرف غير الحاضن ومدى قيام هذا الطرف بدوره التربوي مع الأبناء. فالأب غير المهتم وغير الواعي بدوره التربوي، أو المتزوج من امرأة لا يحبها الأطفال، وكذلك الأم التي تهمل أبناءها أو متزوجة من شخص يسيء لهم سيكون بقاء الأطفال لدي أي منهما ليومين عاملا سلبيا بالنسبة لهم. ولكن فى النهاية لابد أن يعي الطرفان أن الأطفال كما يحتاجون الأم يحتاجون الأب، وأنه من مصلحة الأطفال أن يقضوا المزيد من الوقت مع أبيهم، وأن حق الاستضافة يؤثر على العلاقة بين الأب وأبنائه بما يسمح بنقل القيم والثقافات التي يجب غرسها في الأبناء، وأن السماح له بمتابعتهم دراسيا واجتماعيا يشبع حاجات نفسية لديهم ويدعم شعورهم بأن لديهم آباء حريصين عليهم.