الأيام تمضي.. والمشهد السياسي يحمل بين طياته كل يوم وآخر مواقف تكاد تكون متشابهة مع اختلاف المكان والزمان.. مصر بعد ثورة 25 يناير أصبحت سؤالاً محيراً ولغزاً من الصعب فك طلاسمه. المواطن البسيط قبل السياسي المخضرم علي لسانه سؤال دائم هو «مصر رايحة علي فين». وإلي الآن لم نر خريطة واضحة للسياسة المصرية في عهد الرئيس «مرسي» نستطيع من خلالها تحديد ملامح الطريق الذي نسير فيه لنعرف إلي أين نذهب ونجيب عن السؤال المحير، لكن كل الشواهد تؤكد مقولة الكاتب الصحفي الراحل جلال عامر: «محدش يسألني مصر رايحة علي فين.. كنت اسأل قبل ما تركب»! وتأتي أزمة دستور الجمعية التأسيسية للدستور المرفوضة لتعطي حالة من الضباب وعدم وضوح الرؤية حول دستور مصر الجديدة، بل تضع الشعب المصري بين مطرقة المؤيدين وسندان المعارضين للدستور ومواده كذلك تشكيل اللجنة منذ بدايتها لكونها لا تمثل جميع الأطياف السياسية. وتشهد مصر هذه الفترة حالة من الارتباك السياسي بين المؤيدين للدستور وعلي رأسهم جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تمتلك أغلبية الأعضاء في اللجنة ومن ثم سيدعون الشعب للتصويت ب«نعم» للدستور الجديد لإقراره والعمل به في ظل وجود معارضة قوية من غالبية الأحزاب الليبرالية والقوي المدنية والحركات الثورية. والمشهد الآن كما يبدو من الصورة يعيد إلي الأذهان مشهد استفتاء 19 مارس 2011 الخاص بالإعلان الدستوري الذي حكم مصر عقب ثورة 25 يناير، حيث إصرار أعضاء التيارات الدينية علي موقفهم من الدستور، وتناسي السلفيون مطالبهم في المادة الثانية للدستور، وأعلن التيار الديني عن توحده في مواجهة القوي المدنية والليبرالية في معركة الدستور الذي نتج عن الجمعية التأسيسية لتشهد مصر معركة جديدة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار بسبب الدستور الجديد. والسؤال هنا للإخوان والسلفيين علي لسان غالبية الشعب «هي الجنة مع مين؟»، وهل استغلال الدين في الأمور السياسية ستصبح علامة الجودة لعصر الرئيس مرسي؟ وهل كل الأمور إما في الجنة أو النار ولا يوجد حالة وسط، فلماذا السياسة إذن لو صح كل ما سبق؟! يقول الدكتور عبدالمنعم زمزم، أستاذ القانون بجامعة القاهرة، ل«الوفد»: «إذا تحول الاستفتاء علي الدستور الجديد من استفتاء سياسي إلي استفتاء ديني، فقل علي مصر السلام وما أشبه الليلة بالبارحة فقد قامت ثورة يناير بطموحات كبيرة، تتأسس علي بناء دولة عصرية تليق بشبابها الذي أشعل ثورة أذهلت العالم، فإذا بهذه الثورة تتعرض لانتكاسة كبيرة، حولت مسلكها الصحيح إلي مسار خاطئ تماماً، وذلك بفعل استفتاء 19 مارس 2011. ويؤكد «زمزم» أن هذه القوي المؤيدة استخدمت الدين أسوأ استغلال خلال الاستفتاء، فتحول من استفتاء سياسي إلي استفتاء ديني، موضوعه أشهر غزوة في التاريخ الحديث، وهي غزوة الصناديق، فكانت نعم «خضراء اللون في ورقة الاستفتاء» هي الطريق إلي الجنة وكانت لا «سوداء اللون» هي الطريق إلي النار، وذلك إضافة إلي أن «نعم» هي الخلاص وأساس الاستقرار علي حد تحليله. ويضيف أستاذ القانون بجامعة القاهرة: «وجدنا السلفيين علي وجه الخصوص يكتوون بنار (نعم) التي روجوا لها ودفعوا الناس إليها دفعاً، حيث حرمتهم من مرشحهم المفضل وهو الأستاذ حازم أبوإسماعيل بسبب ما تحمله نصوص 19 مارس والإعلان الدستوري من شروط تتعلق بجنسية المرشح وجنسية والديه، وإذا بهم يقولون لم نكن نعلم أن هذا هو مضمونها، وكيف لكم أن تقولوا (نعم) علي نصوص لا تعرفون فحواها؟!». ووصف «زمزم» الجمعية التأسيسية للدستور بالفجيعة التي جاءت نتيجة الاستفتاء التي تشبه في ظروف ولادتها أطفال الأنابيب، بحسب تعبيره، قائلاً: كيف يتصور عقل أو منطق أن جمعية تأسيسية تشكلت من 100 عضو لا تتضمن فقط إلا 10 من أساتذة القانون وهو ما انعكس علي المشروع الذي أعدته، فظهر معيباً بعيوب جسيمة في المضمون والصياغة فضلاً عن عدم محافظته علي الركائز الأساسية للدولة الحديثة؟!». وأكد زمزم أن الدستور الناتج عن الجمعية التأسيسية تكفل طغيان رئيس الدولة من خلال الكم المفرط من السلطات التي يتمتع بها، وهو ما يعد عدواناً علي السلطتين التشريعية والقضائية، قائلاً: «النصوص الموجودة لم يأمر بها لا شرع ولا دين، ولكن علي ما يبدو أن الدستور يصير إسلامياً بمفهوم البعض إذا وضعه (ناس بذقن) ولو كانوا من غير المتخصصين». واستكمل «زمزم» تصريحاته موجهاً حديثه للشعب المصري نداء إلي شعب مصر العظيم، ثبت أن نعم لم تكن واجباً شرعياً وأن الهدف منها لم يكن هو الاستقرار، وإنما الوصول لأهداف سياسية باسم الدين، لا تنظروا للدستور الجديد علي أنه مفاضلة بين الشريعة الإسلامية وغيرها، فليس هذا هو موضوع الاستفتاء، فالشريعة تعلو ولا يعلي عليها، والاستفتاء موضوعه هل تقبل هذه النصوص أم ترفضها؟ لا تنخدعوا بدعوات «نعم» من أجل الاستقرار أو «عاوزين نخلص» إلا إذا كانت نصوص الدستور ذاتها تكفل هذا الاستقرار». واختتم حديثه: «الحقيقة أن النصوص الواردة في الدستور الجديد لن تجلب علي مصر إلا مزيداً من عدم الاستقرار، وإلي القائمين علي أمر هذا الاستفتاء، اتقوا الله في مصر واخرجوا علي شعبها دستوراً من إعداد المختصين، وإذا كنتم لا تعلمون كيف توضع الدساتير، فتذكروا قول الله تعالي واعملوا به «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون». وانتقد المهندس أحمد بهاء الدين شعبان، منسق الجمعية الوطنية للتغيير، استمرار الرئىس «مرسي» في إهدار فرص التوافق الشعبي والاجتماعي وتهديد الشعب المصري بين حين وآخر بأشياء بالغة الخطورة مثل التخوف من حرق الوطن وما شابه ذلك واصفاً ذلك بالبلطجة السياسية التي لن يقبلها الشعب. ورفض «شعبان» اتهامات التيارات الدينية للقوي المدنية والليبرالية والاشتراكية بالكفر وإهدار دمها لمجرد الاختلاف معها في الرأي، قائلاً: «مصر ستدخل مرحلة الانفلات بلا عودة وهذا ينذر بحرب أهلية وطائفية لو استمر مسلسل التكفير للمعارضين والحكم باسم الدين». وحمّل منسق الجمعية الوطنية للتغيير الدكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية، وجماعة الإخوان مسئولية دخول البلاد في حالة تشرذم وتفكك نتيجة الدستور الجديد مستكملاً، الجماعة تحاول فرض الدستور وتشارك في المظاهرات والحشد لتأييده وهو ما يعد إرهاباً سياسياً غير مقبول. وأكد «شعبان» أن الحل الوحيد يتمثل في توحد وتكاتف القوي الوطنية والأحزاب السياسية بمختلف انتماءاتها الليبرالية والاشتراكية والحركات الاحتجاجية من أجل صد العدوان الذي يتعرض له الوطن من خلال دستور جماعة الإخوان، واصفاً إياه بالطوفان.