لا يحتاج الحديث عن الكاتب الكبير يحيي حقي إلي مناسبة، فهو من أعلام الثقافة المصرية الحديثة، وأحد أهم رموز الإبداع. إنتاجه الأدبي يمثل بصمة ذات شأن في خريطة الأدب، فهو من كتب »قنديل أم هاشم« و»خليها علي الله« و»أم العواجز« و»دماء وطين« و»الفراش الشاغر« و»عنتر وجوليت«، فضلا عن روايته الفريدة ذات المذاق المختلف: »صح النوم«. ولعل أكثر ما يميز حقي، مقارنة بأبناء جيله من الأدباء، هو إنتاجه الغزير في الدراسات النقدية والمقالات الصحفية، وقد نشر معظمها في جريدتي »التعاون« و»المساء« ومجلة »المجلة«، في حقبة الستينيات من القرن العشرين، عبر هذه المقالات التي تجمع بين عمق الرؤية وسلاسة اللغة، يتصدي يحيي حقي لعشرات من القضايا والهموم الجديرة بالاهتمام والتأمل والتحليل، ولأنه مخلص وصادق في اجتهاداته المتفاعلة مع معطيات الواقع المصري، فإن الأغلب الأعم من كتاباته يبدو معاصرا طازجا، يتسم بالحيوية والقدرة علي التعبير عن كثير مما نعايشه الآن، حيث مرحلة التحول التي تتطلب الوعي الموضوعي باشكالات شتي، دون سقوط في هاوية التعصب والتشنج. تتطرق مقالات حقي إلي العلاقة بين الدين والدنيا، وتتوقف أمام خصوصية الإسلام وما يوجهه إليه أعداؤه المغرضون من اتهامات باطلة، وتناقش خطورة التطرف وأفكار الوهابية، وتدعو إلي علاقة متوازنة تسهم فيها مؤسسة الأزهر بخطاب عصري مستنير معتدل، يفهم الشريعة في إطار من التسامح، وينصف المرأة من جور وتعنت المتشددين. القراءة التي نقدمها محاولة لتسليط الضوء علي أفكار كاتب رائد يستحق أن يسمع الآن، في ساحة تموج بأصوات حادة زاعقة أحادية النظرة، تنهمك في مناقشة عقيمة لأبجديات وبديهات كان المأمول أن تحسم قبل نصف قرن علي الأقل، لكنها تثار وتعرقل السعي الجاد إلي العمل والإصلاح وإعادة البناء. خصوصية الإسلام يري يحيي حقي أن الموقع الذي يحتله الدين في حياتنا المعاصرة، يختلف كثيرا عن المكانة التي كان يحظي بها في التاريخ القديم: »مئات من القديسين وآلاف مؤلفة من العباد الصالحين استشهدوا في الدين المسيحي من أجل الخلاف علي العقيدة.. حتي لو كان الخلاف هو: هل الرب ذو طبيعة واحدة أم ثلاث؟. وآلاف من المسلمين اصطدموا بالسلاح وبالقلم حول الرأي: من كان أحق بالخلافة.. أبوبكر أم علي؟«. ويعلق حقي: »كل هذه المعارك خبت مع الزمن نارها وفقدت معقوليتها توارث إنسان العصر الحديث دينا استاتيكيا لا ديناميكيا، فأخذ يقلبه بين يديه ويمتحنه دون عاطفة مشبوبة ودون توقير«. انتهي إذن زمن المعارك الكبيرة، وخبت النار المتوهجة ليست المسألة عند حقي في تراجع الدين وتقلص أهميته، لكنها في اختلاف دوره وموقعه، ذلك أن التقدم العلمي في العصر الحديث قد طرح هموما جديدة وأسئلة من طرا ز مختلف. يعيد الكاتب الكبير طرح بعض هذه الاسئلة، التي تتعلق بالثابت والمتغير في الأديان، وطبيعة الطقوس الدينية، والغرض منها ومدي مناسبتها للإنسان المعاصر. هذه التساؤلات وغيرها ليست جديدة تماما، فهي مطروحة في مختلف الأزمنة، لكنها تكتسب قوة أكبر، وخطورة أشد، في ظل ما طرأ علي الحياة الإنسانية من تقدم وتطور، علي الصعيدين المادي والفكري معا. لم يعد الدين، بحكم هذه الاسئلة، خارجا علي السياق الاجتماعي أو منعزلا عنه، ولم يعد الإيمان به مغنيا عن ضرورة التساؤل والتفكير وإعادة النظر. الإسلام هو الدين الذي ينتمي إليه يحيي حقي ويؤمن به، ويحدد الكاتب ثمانية مبادئ رئيسية، تمثل الجوهر الحقيقي للإسلام من وجهة نظره: 1- وحدانية الله سبحانه وتعالي. 2- الله رب البشر جميعا، لا يختص به شعب الرسول - عليه الصلاة والسلام - دون بقية الشعوب. 3- الدعوة الملحة لإعمال العقل وتدبر الكون وفهم أسراره. 4- العقيدة علاقة حميمة بين الخالق والمخلوق لا تحتاج إلي وسيط، والدين منهج للتفكير والحياة، فلا ينبغي أن يكون مهنة أو صنعة لطائفة بعينها. 5 - رفض الخرافة. 6- الإعلاء من شأن الحياء. 7- الاقرار بالترابط الاجتماعي وتكفل الكل بالكل. 8- نبي الإسلام مثل فذ في بطولته وإنسانيته وبلاغته وصدقه وصراحته. هذه المبادئ، تدعو حقي إلي الإيمان بالإسلام والشعور بالسعادة لأنه ولد مسلما. والتأمل في المرتكزات، التي يحددها الكاتب الكبير، تكشف عن رؤيته الإنسانية العصرية المتقدمة للعلاقة بين الدين والدنيا، وبين الإسلام والبشر. إنه لا يتوقف كثيرا عند الفروض والطقوس وتفاصيل العبادات، ذلك أنه يركز علي الجوهر الإنساني، والمبادئ العليا، والأحكام التي تمثل فلسفة متكاملة يتحرر بها الإنسان من الخوف والعنصرية والخرافة والفقر والعبودية والظلم والابتذال. ويعود حقي ليطرح المبادئ نفسها، بعد عودته من رحلة قصيرة إلي فرنسا، ففي سياق مناقشته لمنهج الدعوة الإسلامية في بلدان أفريقيا وآسيا، كتب يقول: »نريد منهم أن يتحدثوا بإطالة عن المبادئ الإنسانية العليا التي شرعها الإسلام ونادي بها: تحرير الفرد فكرا وضميرا، برفع اللعنة عنه، لا سيادة عليه إلا لربه، من الاعتماد المطلق عليه يستمد شجاعته واقدامه لا قعوده وتوكله، حثه علي النظر في أسرار الكون وطلب العلم، حثه علي الفلاح، فلاح النفس وفلاح الأرض، المناداة بالمساواة بين البشر، وإزالة فروق الجنس واللون، المناداة بالعدالة الاجتماعية وتكامل أفراد الأمة، يحمل غنيهم عبء فقيرهم، المسلم مطالب في معاملاته، في زواجه، في بيعه وشرائه، بالتزام العدل، حياء من الله لا خوفا من القانون أو الناس، فلم يبق للمسلم من عمل.. إلا كان عبادة«. لا ينبغي للدعوة الإسلامية، عند يحيي حقي، أن تركز جهودها علي تجويد القرآن الكريم وشرح فرائض الدين وأركان الصلاة وشرائط الوضوء وحد الزكاة، فكل هذه الجهود المحمودة والمطلوبة لن تؤتي ثمارها بمعزل عن المنطلقات الفكرية العامة التي تميز الإسلام وتجعله صالحا لكل زمان ومكان. وهذا الإيمان العميق بالإسلام، والسعادة بمبادئه وأفكاره، لا يقود إلي نفي الأديان الأخري، ولا يجعل من معتنقيها خصوما وأعداء. جوهر الأديان كله هو التسامح وقبول الآخر والتعايش في سلام، فالسلام هو المطلب الإنساني الأسمي: »ليلة القدر قبل أن تكون ليلة نزول القرآن هي ليلة السلام. وهل للناس جميعا لهفة إلا علي الإسلام؟«. في هذا الإطار تنتفي الخصومة بين الأديان المختلفة: »إن الأديان كلها طرق متباينة متفرقة ولكنها تؤدي جميعها إلي ساحة واحدة«. معليهش! ولأنه يؤمن بالإسلام وتسامحه، ويعتقد أن الأديان جميعا تقود إلي ساحة واحدة، فإن كتابات يحيي حقي تخلو من التعصب والنوازع العدوانية تجاه أصحاب الديانات الأخري. ربما يحتد أحيانا علي أعداء الإسلام ومشوهي أحكامه وفضائله، لكنه يضيق بجهلهم ويرفض تعصبهم وتحاملهم، دون التورط في خوض معارك دينية ضدهم. كتب يحيي حقي ثلاث مقالات عن كتاب »معليهش«، للأديب والمسرحي الفرنسي المعروف جان كوكتو، وهو عن رحلته إلي مصر وتركيا واليونان، وتفوز مصر فيه بنصيب الأسد من الاهتمام. في المقال الأخير، ينقل حقي مقتطفات من الكتاب دون تدخل، ومن الفقرات التي ينقلها تحت عنوان »المكيفات«: »جميع المكيفات في مصر تعمل علي شد الأعصاب واهاجتها، أما المكيف الوحيد الذي يهدئ الأعصاب، الأفيون الوحيد هو الدين. تسير عربات النقل بالليل في طريق الإسكندرية كما تشاء، علي يمين الطريق أو يساره، وماذا يهم؟ خليها علي الله، فحوادث المرور في القاهرة تفوق الحصر. إن الدين هو الأمل الوحيد لشعب مستسلم لقدره، فهو يسرع بلا تردد إلي بناء مسجد بدلا من بناء مستشفي يملأ العين«. لا يعلق يحيي حقي أو يعقب علي الفترة المترجمة، وفيها من التعالي والتحامل ما يستحق الرد. ربما يكمن السبب في يقين حقي بأن الآراء التي يبديها كوكتو تتضمن صدقا يتعلق ببعض سلوكيات المسلمين، دون تعاليم الإسلام. الاستهتار بقواعد المرور والتعلق بالشكليات »سلوك« يحسب علي المسلمين، وليس له علاقة بالفكر الإسلامي الذي يعادي التواكل، ويحض علي الترابط والتكافل. ولم يكن جان كوكتو وحده من رصد وحلل مثل هذه السلبيات، ذلك أن الإمام المجدد محمد عبده يعيب علي المسلمين تخلفهم وابتعادهم عن صحيح الدين، في مقولة شهيرة ينقلها حقي ويؤيدها: »حقا لقد صدق الإمام الشيخ محمد عبده حين قال إن أهل أوروبا مسلمو هذا العصر.. أما نحن فكفرته«. لا يجد حقي حرجا في ترجمة آراء كوكتو دون تعليق، وهو حريص علي استعادة رأي الإمام محمد عبده مع التأييد والموافقة، وهو أيضا يرصد ما يقوله الغرب عن الإسلام والمسلمين دون رغبة في الرد الإنشائي والمعارك الكلامية: »أساس الدين هو التوكل وابطال الإرادة، إنه قيد أبدي علي حرية التفكير. العرب تجار رقيق، والفتح تم بالسيف، وأكر هنا أن أعيد التذكير بالمطاعن العديدة التي رشقت القرآن وحياة الرسول، فليس قصدي من هذا الكلام إلا إزاحة الأوهام للوصول إلي الوئام بين الشعوب، أريد النور لا إيغار النفوس«. الرأي الغربي الشائع في الإسلام والمسلمين معروف وشائع، واستعادة ما يقولونه لا تهدف إلي الحرب والثأر بقدر ما تسعي إلي الوعي والاستنارة، الإسلام دين حي، ويبشر بكل جميل وجليل من الأفكار والقيم والمبادئ، ويختلف الأمر بالنسبة للمسلمين وواقعهم الذي يصعب الدفاع عنه أو تبريره، يتساءل حقي في مرارة غير خافية: »ولكن هل وجدت هذه التعاليم من رعاها؟«، ويجيب عن سؤاله: »ما أقصر الفترة بين نزول الوحي ووفاة عمر بن الخطاب، فمن بعده بدا كأن الشق القائل »أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا« هو الذي ارتفع لواؤه. استشري التكالب علي الثراء وتقهقهرت مكانة بيت المال الذي كان يرث من لا وارث له، مكلفا بأن يعين من لاعائل له، وكان من أرذل النفاق تفسير الدين قسرا بأنه يجيز الفقر قهرا، ويجيز الثراء الفاحش غلبة واقتدارا«. قد يكون الغرب مبالغا في تجنيه علي الإسلام والمسلمين، لكن الجناية الأعظم يقترفها المسلمون أنفسهم، لأنهم فرطوا في قواعد ومبادئ وأركان الإسلام. ضد التطرف يتسم يحيي حقي بالتسامح وإدراكه للضعف الإنساني وتقديره لأهمية الشك وضرورة الحيرة قبل الوصول إلي مرحلة التسليم والإيمان، فهو يري - مثلا - أن كتاب »المنقذ من الضلال«: »ترجمة ذاتية روحية للإمام الغزالي، لم يخجل من الاعتراف لنا فيه بتخبط ضلاله قبل أن يهتدي إلي مذهب يؤمن به«. ويستطرد قائلا: »أما نحن فنتحرج اليوم من التحدث عن زيغ لنا سبق، حتي بعد أن نتوب إلي الرشد فنندم وتصدق توبتنا. نخشي الاعتراف بالضلال الذي خضناه من قبل الوصول إلي نور الهداية«. الإمام الغزالي نفسه، وهو حجة الإسلام لا يجد حرجا في الاعتراف بالضلال والتخبط قبل الاستقامة والنجاة، فلماذا يخشي اللاحقون من الاعتراف؟. إن مرد الخشية »اجتماعي« يرتبط بالحرج، وليس »دينيا« يقترن بالمبدأ والعقيدة. عندما يكتب يحيي حقي عن الشاعر الكبير أحمد شوقي، لا يجد غضاضة في الكشف عن طبيعة سلوكه الذي لا يتوافق كل الموافقة مع أوامر الإسلام ونواهيه: »إن شوقي شاعر الإسلام هرب من الخديو عباس حين دعاه إلي مرافقته للحج، خوفا من التعرض لأوبئة فتاكة، ولا أظن أن شوقي شوهد وهو يصلي، ولكن علاقته بربه كانت عمارا، وإيمانه به وبكرمه لا حد له ولا شبهة فيه. أكرمه ربه في دنياه كما يكرمه في آخرته، لأن رحمته واسعة لا تقصي أصفياء القلوب، المترفعين عن الأذي واللؤم والخبث«. يهرب أمير الشعراء من مصاحبة الخديو في رحلة الحج خوفا من الأوبئة، ويخاصم الصلاة أيضا!، لكن إيمانه - النابع من القلب - لا شك فيه، وصدقه في علاقته مع الله لا تحيطه الشبهات. يختتم حقي إحدي مقالاته، التي يتعرض فيها لذكريات قديمة عن المدرسة الابتدائية، قائلا: »لم أنقطع بقية حياتي عن الشك في كل واعظ إذا علا غليانه إلي درجة التشنج والنحيب تفجعا للفضيلة المذبوحة«. أمثال هذا الواعظ لا يوجدون في مصر وحدها، ففي تركيا يصادف حقي كتبا رائجة: »تتندر برياء الدرويش الذي يزعم أنه ملتزم المسجد وإذا سئل عنه وجدوه في الخمارة!«. لا حرج في الشك والاعتراف بالزيغ، ولا تسرع في الحكم علي إيمان المسلم ودرجة تقواه من خلال السلوك الظاهر، والعداء - كل العداء - للتشنج الديني والتعصب الأعمي الذي يثير الهواجس ويبعث علي الريبة!. التمسك بالدين لا يعني التطرف والتعنت، والانفتاح علي الحضارة ومراودة التقدم لا ينبغي أن يقود إلي محاربة الدين وإهماله. يقف حقي ضد التطرف، وليس من نموذج يفوق التزمت الذي تجسده الحركة الوهابية في المملكة العربية السعودية. الوهابية تتجلي سخرية يحيي حقي من المذهب الوهابي في سياق الحديث عن رجل المخابرات الإنجليزي »سان جوزيف فيلبي«، الذي يصفه حقي قائلا: »وكانت له لحية كثة بلون الحناء«، ثم يضيف متهكما: »لا تنس أنه من محاسيب المذهب الوهابي«!. لا توجد أدني علاقة، بطبيعة الحال، بين رجل المخابرات والإسلام، ومن هنا تنبع السخرية. ليس كل صاحب لحية من المحسوبين علي الإسلام، وليس كل من اشترك مع المسلمين في طقس شكلي ينتسب إليهم!. الإسلام يتجاوز الشكليات والقشور، وليس من الإسلام في شيء أن يدفع المسلمون دفعا إلي تأدية العبادات، ولذلك لا يخفي يحيي حقي استياءه من قوانين الحكومة السعودية التي تحرم تدخين السجائر في الطريق العام، وتعطي الحق لرجال »الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر«، في سوق السائرين غصبا إلي المساجد إذا نودي للصلاة: »فكان أول أثر لهذين القانونين علي نفسي أنني ثرت عليهما«. إنه لا يثور ضد الدين ولا يسخر من تعاليمه، فثورته ضد نمط من التطبيق، وسخريته من مذهب يتطرف ويتعنت مهملا حق الإنسان في أن يكون حرا ذا إرادة مستقلة. ما العلة في التحريم الصارم للموسيقي والغناء؟!، وهل ينجح مثل هذا التحريم في القضاء علي ميل الإنسان الغريزي في الاستمتاع بالفن وتذوقه؟!. ألا يؤدي مثل هذا التجريم إلي دفع الإنسان للتحايل من أجل خرق القوانين التي تكبله، وتقيده؟!. يقول حقي: »الحكم الوهابي الجديد حينئذ، وكل غربال جديد وله تعليقه، كان يحرم الموسيقي تحريما صارما. لا يسمح لفوتوغراف أو أسطوانة بدخول البلاد، وحتي »مزيكة الفم« التي يلهو بها الأطفال تصادر في الجمارك، فما بالك بآلات الطبل والزمر. مرت علي سنتان لم يقع فيهما بصري قط علي آلة موسيقية ولو معطلة في سوق الكانتو، ولم أسمع عزفا من أي نوع كان أما الغناء فقد نجا من التحريم إذا كان غير مصحوب بعزف. كانت الوسيلة المفضلة في تهريب الأسطوانات هي وضعها بين ثوبين في طرد المانيفاتورة«!. ويتوقف حتي أمام نموذج لشاب سوري يستوطن الحجاز: »وهو يجيد عزف العود، وعوده مكسور وأصبح ترابا، ويجيد العزف علي البيانو، وهو مفكك موضوع في مخزن البضائع في متجر أبيه، يود أن يشرب، ولو ضبط شاربا لحبس ستة أشهر، وكل شهر ستين جلدة علي قارعة الطريق وعلي مرأي من الناس جميعا، وهو فوق ذلك يجيد الغناء، ولكن لا يستطيع أن يغني في غرفة مقفولة، بدون عود، بدون ويسكي، بدون حرية«. تحريم صارم لا تسامح فيه، وتشدد عنيف في مصادرة الموسيقي - بكل أشكالها - والحيلولة دون دخولها. النتيجة المنطقية المتوقعة هي الغياب »الظاهري« للموسيقي مع السعي إلي »تهريبها« بشتي الوسائل والأساليب، بحيث يتحول الاستماع إلي نوع من »المغامرة« التي تستدعي طقوسا وإجراءات أمن، يرد بها حقي بتفصيل كاريكاتوري ساخر، يكشف عن بشاعة التحريم غير المبرر. هل تستطيع القوانين، مهما تبلغ صرامتها، أن تحول بين الإنسان وحقه المشروع في التطلع إلي المتعة والحرية؟!. الطبل والزمر يواصل حقي استدعاء ذكرياته عن الحركة الوهابية وممارساتها المتطرفة، في مقال آخر يعرض فيه للقطيعة القديمة والأزمة العنيفة بين مصر ومملكة نجد والحجاز. لم يكن الخلاف لأسباب سياسية: »بل بسبب لا يخطر بالبال. أتعرف ما هو؟ إنه هذه الفرقة العسكرية الموسيقية التي كانت تطلع من مصر مع المحمل، لتزفه في الطريق، ذهابا وإيابا«. ويواصل حقي شهادته: » تصور كيف يكون الحال حين تشق جموع الحجاج من غلاة الوهابيين فرقة موسيقية بأكملها، تلعلع وتنفخ الأبواق وتدق علي الطبول، وكاد أن يقع صدام مسلح بينهم وبين حملة المحمل المصري، وخيف أن تنطلق النيران من الجانبين ومرت لحظات رهيبة لا يعلم أحد ماذا كان سيحدث لو أن أصبعا هائجا ضغط علي الزناد. وأرسل الملك ابنه سعود ففصل بين الجمعين«. ويختتم حقي مقاله ساخرا: »فكانت هذه الحادثة هي السبب في قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، أو قل بين الملكين.. وكل هذا كما رأيت من جراير الطبل والزمر«!. لا يشكك حقي في إسلام الوهابيين، لكنه يرفض نزعتهم الجامدة وتوقفهم المتشنج عند الشكليات، التي تخفي الجوهر الأصيل للإسلام وسماحته وعصريته الدائمة المتجددة، وما ينطبق علي الوهابيين يسري علي كل متشدد متعنت، عاجز عن مسايرة الزمن وفهم ايقاع الحياة. الدين عن حقي ليس تحصيلا لعلم قوامه المعلومات، لكنه - قبل ذلك - رغبة صادقة في الفهم من خلال إعمال العقل: »أحذرك من تحصيل العلم إذا لم تعقبه محاولة للتفكير، للفهم، إن الذي وضع فقه كل الديانات هو غلبة العلم علي الفهم«. يأخذ يحيي حقي علي المسلمين وعلمائهم تغليبهم للنقل علي العقل، وينعي عليهم الاهتمام بالقشور والشكليات، وإهمال الجوهري والأصيل. الدين ليس طقوسا وعبادات فحسب، لكنه أيضا سلوك ملتزم وعقل مستنير: »بعد أداء الفرائض والسنن وتجنب المعاصي والكبائر، اعلم أن الدين هو المعاملة، وأن المسلم هو من سلم الناس - لا المؤمنون وحدهم - من يده ولسانه، وأن الدين ليس طقوسا يتم منها المراد بأدائها أداء شكليا، بل ومن ورائها عقل غير مستنير وإرادة مزعزعة.. وذمة خربة«. الإسلام إذن ليس دينا فرديا يقدم خلاصا شخصيا، بقدر ما هو دين جماعي اجتماعي يحرص دائما علي المصلحة العامة التي لا سبيل إلي تحقيقها بمعزل عن التكاتف والتكافل واندماج المسلمين جميعا في منظومة واحدة: »وليس بين أيدي الناس كتاب ديني يعني عناية القرآن بالمجتمع، إنه يخاطب الفرد، لكي ينشأ من اجتماع الأفراد مجتمع قوي، ديناميكي، متحرك، متعاطف ومتحد معا لمواجهة الأخطار والمشاكل، وفي الإسلام أحكام كثيرة تدل علي أن مصلحة الجماعة مقدمة علي مصلحة الفرد«. إن ما يأخذه حقي علي الحركة الوهابية هو أهمالها للفكر الإسلامي المتجدد الحي، وتعلقها بالشكلي والطقس والجامد البعيد عن روح العصر وايقاع الحياة. »وللحديث بقية«