سنوات الغربة الطويلة دفعت "الست جليلة" للتشوق لليوم الذي ستعود فيه لأرض الوطن لتستطيع تجهيز منزلها حسب ذوقها، بعد صبر طويل ازاء الخلافات المستمرة بينها وبين زوجها المهندس حول ترتيب الأثاث، خاصة أنه كثيرا ما وعدها بأن يكون لها خصوصية وحرية تامة في تنظيم شقتها بعد الاستقرار في مصر. انتهت سنوات الغربة وعادت "جليلة" إلى مصر قبل زوجها لتقوم بتجهيز كل ركن في منزلها حسب ذوقها، وتركت له غرفة المكتب الخاصة به ينظمها على ذوقه وحسب احتياجاته فور عودته. عاد الزوج من غربته ولأنه استقال من عمله قبل السفر للخارج، وأصبح فى مرحلة عمرية لا تسمح بالبحث عن عمل من جديد في مصر، لم يكتفِ بتنظيم غرفة مكتبه فحسب وإنما أصبح شغله الشاغل هو التدخل في كل صغيرة وكبيرة في شئون المنزل، لدرجة أنه أصبح يغير تنظيم الأشياء ويتهم زوجته بسوء التنظيم، وكلما تذمرت الزوجة أو سألته عن مكان أي شىء كانت العصبية والشجار رده الدائم، لتتبخر أحلام الست جليلة من جديد فى أن تصبح هى سيدة البيت. "كلمتي مش هتنزل الأرض أبدا" إنه "سن المعاش"، تلك المرحلة العمرية التى يصاحبها تغيرات فسيولوجية يمر بها الرجل والمرأة العاملة على حد السواء، فتترك تأثيرها السلبي على جميع أفراد الأسرة وخاصة الرجل، وإذا لم تتحل الزوجة والأبناء بذلك القدر الكافي من المرونة والتفهم لطبيعة تلك المرحلة، وإذا لم يعترف الرجل بأن كل فرد من أفراد الاسرة له الحق في الاحتفاظ بخصوصيته، فإن الأمور تزداد فى سوءها وكدرها على الأسرة. حول سن المعاش وما يصاحبه من مشكلات أسرية قامت بوابة الوفد باستطلاع الآراء للتعرف على أهم المشكلات التي تتعرض لها الأسرة، وسبل التصدي لها، حتى يصبح سن المعاش ربيعا جديدا له رونقه الخاص. تقول الست "صابرين" زوجي محاسب على المعاش، قبل ذلك لم يكن يهتم كثيرًا باحتياجات المنزل وكنت المسئولة عن كل كبيرة وصغيرة، وإذا طلبت منه شيئاً رد قائلا: "مش كفاية بشتغل زي طور في ساقية"، حتى حجز المصايف والفسح كنت أنا المسئولة عنه، لكن وبعد خروجه على المعاش أصبح التدخل في كل تفاصيل المنزل هو شغله الشاغل، ولأنه محاسب من الدرجة الأولى فوجئت بتحول حياتنا لجداول حسابية، ده بكام وليه ده في المكان الفلاني أرخص، المحل ده اسعاره غالية والخضري ده حاجته مش طازة، لا بلاش الفراخ النوع ده والبلدي أفضل، وبلاش تبعتي تجيبي حاجة من السوبر ماركت أنا أجيبهالك، واتعاملوا مع الصيدلية دي بتعمل خصم 10% وهكذا، بعد أن اعتدت على تحمل مسئولية أبنائي ومنزلي، أصبح لابد وأن أرجع له في الصغيره قبل الكبيرة، وإذا تصرفت في شيئ دون إذنه حتى وإن كان يخصني أو يخص بناتي "يعني اشياء لا تهمه كرجل" قوبلنا بالوعيد والتهديد أنه سيحرمنا من كل شىء، ويتهمنا بسوء التصرف وبأننا لا نحترم كلمته. بابا أخد دور ماما الأم: أنا إنسانة من حقي أنظم ثلاجتي بالطريقة اللي تناسبني وأنا أدرى باحتياجاتي، وبعدين مبقاش صاحية من النوم وألاقي أكياس الخضار بتصبح علي. الأب: أنا أنزل في المعاد اللي يناسبني مش كفاية مريحك من السوق وحاجتك بتيجي لك لحد عندك، وبعدين انتي اللي بقيتي كسولة في حد يصحى الساعة 1 ظهرا. الأم: واصحى بدري ليه انت وعلى المعاش وولادي وخلصوا جامعة وياما صحيت وحضرت لك فطار وانت تقول لي مش جعان هأكل بعدين. الاب: آه بس أنا برده مريحك والا انتي عاوزة تغلطيني في كل حاجة. استيقظت "هند" على هذا الحوار الذى أصبحت تسمعه تقريبا يومياً، ليدور في ذهنها نفس التساؤل، طب فيها ايه لو بابا سأل ماما هي محتاجة ايه قبل ما يروح السوق، ولو ماما كبرت دماغها وسابت الحاجة في المطبخ لحد ما تقدر نظمها، ولكن يبقي العناد وغياب لغة الحوار عن منزلها وشعور الأم بأن الأب لا يحترم خصوصيتها، وشعوره هو بأن الأم تتعمد الغاء وجوده أهم سبب لهذه المشكلات المستمرة. بابا عارف كل أسراري " أنا يا جماعة مش معترض ان والدي يسالنى رايح فين وجاي منين لأني بحبه جدا وعارف إن من الإحترام إني أكون صريح مع والدي ووالدتي، وكمان من حقهم يشاركوني اختيار أصدقائي، لكن المشكلة إن والدي بقى عارف كل كبيرة وصغيرة في مكتبتي أكثر مني، وأحيانا أدور على كتاب خاص بي لا أجده أبدا، وإذا سألته يرد بعصبية أخذته ومش فاكر حطيته فين، حتى جاء اليوم الذي دخلت فيه غرفتي وجدت أبي يمسك دفتر ذكرياتي ويهزأ بمشاعري وتصرفاتي الصبيانية مع الفتاة التي كنت أحبها وأنا في المرحلة الثانوية، الغريب إن والدي زمان كان من أول المنادين بالخصوصية وإذا أخذت قلم من على مكتبه يتخانق ويقول أنا بكون عارف حاجتي فين ومحدش يأخذ حاجة بدون استئذان حتى لو قلم جاف" هكذا تحدث محمد عن معاناته مع أبيه بعد أن أصبح على المعاش، فى مشكلة لا تقتصر فقط على العلاقة الزوجية وإنما تمتد أيضا إلى الأبناء. المواصفات النفسية لسن المعاش وعن المواصفات النفسية للإنسان في مرحلة الشيخوخة التى تصاحب غالبا الخروج على المعاش، يحدثنا الدكتور نبيل عيد الزهار أستاذ علم النفس قائلا: الكثيرون يعتبرون هذه المرحلة نهاية المطاف ويعتقدون أن الإنسان يصل لها وهو في الستين أو أكبر من ذلك، لكن نفسيا وعمليا قد يصل الإنسان إلى مرحلة الشيخوخة وهو لا يزال في 40 من العمر، ولا يصل لها وهو في السبعين من عمره، فهناك ملامح خاصة لمرحلة الشيخوخة لا تفترض سنا معينا، وتحدث نتيجة التدهور العضوي والعصبي والعقلي من أهمها النكوص والارتداد في الانفعالات وظهور سلوكيات تشبه سلوكيات الأطفال كالعناد والأنانية والاعتماد على الغير في كافة أمور الحياة، كما يختل التفكير ويتخذون قرارت خاطئة وتزداد نسبة الندم مع ضعف في التذكر، كما تظهر بعض الأمراض النفسية كالتشاؤم والقلق والحسرة والألم على كل مافات خاصة في حالة وفاة الزوجة أو أصدقائه من نفس السن. وبالنسبة للأعراض الصحية فتضمر العضلات ويشتعل الرأس شيبا، وتقل كمية الدم الذي يصل للمخ والأطراف، ويصحبه العديد من أمراض الشيخوخة كارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين واضطراب الدورة الدموية والضعف العام، وضعف الحواس وعدم القدرة على التركيز التشتت والنسيان، كما يصاب البعض بأمراض عقلية كذهان الشيخوخة. بروتوكول التعامل مع سن المعاش وعن بروتوكول التعامل مع سن المعاش يوضح الدكتور "الزهار" أن الرجل حينما يتقاعد عن العمل ويبلغ سن المعاش، تتحول حياته للنقيض، فبعد أن كان مشغول بالعمل ومتطلبات الحياة وكسب الرزق، نجده يتصرف تصرفات بعيده تماما عن شخصيته، أو تظهر بعض الجوانب بشكل أكبر من السابق، حتى أنه قد يحب أشياء لم يكن يحبها في السابق أو يكره أشياء كان يحبها، سواء بالنسبة للموضوعات أو حتى الأطعمة والمشروبات، وبتواجده في المنزل نتذكر المثل المعروف "الفاضي يعمل قاضي" ، فهو يتدخل في كل شىء حتى في تربية الأحفاد، ومحتويات الثلاجة، وخزين المنزل، كما يتصف بسرعة الإنفعالات والرغبة في أن ينفذ الآخرون أوامره بدون أي تباطؤ، وعدم تنفيذ كلامه أو التباطؤ في ذلك يعتبره خروجا عن طاعته، كما نجد بعضهم يدققون في الحسابات المالية على عكس ما اعتادوا عليه. ويوجه الزهار حديثه للزوجات، يقول: "ننصح الزوجه بأن تكون أكثر صبرا وتحملا لهذه التحولات المزاجية والسلوكية، ولن يتحقق ذلك إلا بعد التعرف على هذه السمات، والتأكد من أن الزوج لا يقصد بها الإساءة لها أو مضايقتها، لكنها الطريقة الوحيدة التي تشعره أنه لا يزال موجود وأنهم في حاجة له وأن كلمته ورأيه مهمان، باختصار أنه لم يصبح كم مهمل" ويضيف:" لابد للزوجة أن تجلس مع زوجها وتتخطى المسافة الفاصلة بينهما ولا تعتمد على أبنائها بدلا عنه، تستشيره في كل صغيرة وكبيرة، وتوجه أبنائها إلى ذلك، وتثني على صفات زوجها وشخصيته، وتذكر فيه الأشياء التي تحبها فيه سابقا حتى وإن كان يفعل عكسها في هذه المرحلة. وعن الطريقة الأمثل لتعامل الأبناء مع والدهم فى سن المعاش، يضيف:" بالنسبة للأبناء فعليهم مساعدة الأب في المشاركة في أي نشاط مجتمعي كالجمعيات الخيرية، والنوادي الإجتماعية، فلقاؤه بمن هم في سنه وتجاربه يدخل عليه نوع من الإستقرار النفسي، ولا غنى عن ممارسة الرياضة كالمشي لأن عدمها يؤدي لعدم وصول الدم للمخ بشكل يزيد من المشكلات في التركيز والتذكر، وأخيراً لابد للأبناء أن يضعوا والدهم في اطار الإحترام، ولا يتجاوزوه في الصوت أو المشي أو حتى الحديث، ويأخذون برأيه بشكل عام يشركوه في حواراتهم، ويحك الابن للأب حتى عن الفتاة التي يريد الإرتباط بها ولا يتعامل معه على أنه "دقة قديمة" بل نتعامل معه كمصدر للخبرات والتجارب والنصائح الصادقة".