الشيخ أحمد ربيع، الأزهرى الإمام والخطيب بالأوقاف، ثمرة من ثمرات مصر المحروسة، فهو من علماء الأزهر وأئمة وزارة الأوقاف، وهو باحث فى مقاصد الشريعة، ومتخصص فى التاريخ والمنهج الأزهرى وداعية من صناع الأمل فى الأمة وخطابه يتسم بالأصالة والمعاصرة.. مع تقديم مبادرات وحلول خلاقة للواقع المجتمع ومشكلاته مع استشراف للمستقبل. فى حواره ل«الوفد»، طرح «الأزهرى» رؤية لمواجهة النوازل مثل جائحة كورونا التى ضربت العالم فى مقتل، جمعت هذه الرؤية بين التوجيه والتوجه؛ بقصد الجمع بين الأخذ بتعليمات أهل الاختصاص والتضرع والدعاء لله عز وجل وطلب المعونة منه لتفريج الكرب. وأكد الشيخ أحمد ربيع أن الوضع الاستثنائى الذى يعتمد عليه العقل الفقهى المعاصر من خلال قواعد الضرورة وسد الذرائع وارتكاب أخف الضررين لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون هو الأصل الذى ننطلق منه لإسباغ الحلال على كل ما نقول ونفعل، وأضاف الداعية المتخصص فى التاريخ والمنهج الأزهرى أنه لا بد من إعادة تشكيل القدوة للشباب، فمن المؤسف أن يقلد الشباب فى بلدنا نماذج مشوهة على مستوى الفكر والثقافة، «الوفد» التقت الداعية الشاب فكان هذا الحوار: بداية ما المنهج الذى تراه فى مواجهة النوازل كنازلة انتشار فيروس كورونا؟ - نؤكد دائماً أن لله عز وجل سنناً إلهية لا تتخلف وعطايا ربانية لا تنقطع، وفى لحظات الشدائد تأتينا رسائل الأمل ومصابيح الهداية وأبواب الفرج لينهمر علينا غيثه وتنفتح لنا بركاته، وكل هذا مرهون بفهم الرسالة وقراءة الأحداث وربطها بأيام الله التى تتجلى بركاتها، والمنهج الذى نراه لمواجهة النوازل هو المنهج الذى يجمع بين «التوجيه» و«التوجه»، ويُقصد بالتوجيه النصح والأخذ بالأسباب والسعى لتحصيل سُبل النجاة والاجتهاد فى اكتشاف الدواء والالتزام بتعليمات أهل التخصص والتكاتف لمواجهة المحنة بفقه الجسد الواحد والبنيان المرصوص، أما «التوجه» فمعناه التضرع والدعاء لله عز وجل بقلوب خاشعة وأبدان خاضعة وأفئدة متذللة وبحال كله عجز وانكسار وطلب المعونة وتفريج الكرب من الله القهار والولوج إليه من اسمه الرحمن والتشفع باسمه الغفار، فيجتمع التوجيه مع التوجه فينهمر العطاء ويزول الوباء، ونفهم الرسالة التى مكمنها «إثبات القيومية» فالله عز وجل (هُوَ الْحَى الْقَيُّومُ) (البقرة: 255)، وكأن الرسالة (أنا الله) وهنا يأتى السؤال إذا كانت الرسالة (أنا الله) فكيف تكون الإجابة من عبيد الله؟، الإجابة تظهر فى آية توصف حالنا وكأنها شارحة لكل ما نحياه من شدة وابتلاء ومحنة وداء فتأمل قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون) (البقرة: 155-156)، فنحن نحيا فى الخوف من تفشى الوباء فخلت الشوارع وأعلنت حالة الطوارئ فى غالب ربوع العالم، وحل الجوع فى كثير من البلدان ونقص المال وأصبح العالم على مشارف أزمة اقتصادية طاحنة وماتت الكثير من الأنفس ورأينا مشاهد للتعامل مع الموتى فى ربوع العالم تنفطر له القلوب، وقلت الثمرات، وهنا يأتى العطاء الذى مكمنه أن نُعلنها بأننا فهمنا رسالة (أنا الله) وأن الإجابة تكون (إِنَّا لِلّهِ). ما رأيك فى أعمال فقه الضرورة للتيسير على الناس؟ - الوضع الاستثنائى الذى يعتمد عليه العقل الفقهى المعاصر من خلال قواعد الضرورة وسد الذرائع وارتكاب أخف الضررين لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون هو الأصل الذى ننطلق منه لإسباغ الحلال على كل ما نقول ونفعل، مع اعترافنا الكامل بأنه لا واجب فى الشريعة مع عجز ولاحرام مع ضرورة كما قال أهل العلم، إلا أننا نخشى أن تدوم حالة العجز.. فنخرج من السياق المعرفى الإنسانى للضرورة، نتيجة لهذا التساهل المفرط فى استخدام هذه القواعد، فيظهر عجزنا عن فرض رؤيتنا الفقهية التى نستشرف بها المستقبل ونؤثر فى تشكليه بعيد عن هذا التفريط المخزى. فى خضم هذه الحرب الضروس على هُويتنا ومنظومتنا القيمية والأخلاقية، ما مقترحات فضيلتكم للحفاظ على هذه الهُوية والقيمية؟ - هذا الأمر من الخطورة بمكان ولقد شغلنى فترة حتى إننى أخرجت دراسة تحت عنوان «القيم بين الاستثمار والاندثار.. رؤية أزهرية لفلسفة القيم فى زمن الانحدار الأخلاقي» قدمت فيها رؤية للحفاظ على هويتنا وقيمنا الأخلاقية نلخصها فى المقترحات التالية: - اعتبار الحفاظ على الهُوية القيمية والأخلاقية أحد أركان أمننا القومى، وإن إعادة بناء منظومة القيم وإحياء الأخلاق جزء أصيل فى منظومة بناء الإنسان باعتبار الإنسان أصل البنيان، وأن الخلل القيمى آثاره مدمرة على حياة الأفراد وسلامة المجتمعات. - التكاتف لتحويل كل رؤية إصلاحية للتعليم فى بلادنا إلى واقع.. والعمل على التمكين العلمى المثمر لكل الفئات خاصة للإناث والمناطق المحرومة، وتحويل قضية التعليم كمشروع قومى يحظى بالأولوية. - تشكيل لجنة مصغرة داخل مجلس الوزراء تضم وزراء التربية والتعليم، والتعليم العالى، والشباب والرياضة، والثقافة، والإعلام، والأوقاف، بالإضافة لممثلى الأزهر الشريف والكنيسة المصرية، لوضع رؤية ومناهج عمل وخطط تنفيذ لإحياء منظومة القيم والبناء الأخلاقى للمجتمع والحفاظ على هُويته وبناء شخصيته. - لابد من وضع خريطة للدولة المصرية نرصد فيها المنظومة القيمة والأخلاقية ومواضع الانفلات الأخلاقى والخلل القيمى. - لا بد أن تنهض الجامعات المصرية المنتشرة فى ربوع الوطن بدورها التنويرى فى صيانة الأمن الأخلاقى والقيمى للمجتمع. - يجب ربط البحث العلمى بقضايا المجتمع الأخلاقية. - يجب إعادة «بناء القدوة والنمذجة» فى المجتمع. ما تقييم فضيلتكم للدور الذى تلعبه مواقع التواصل الاجتماعى فى حياتنا المعاصرة؟ - لم تعد مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت منتديات ترفيهية أو محلاً للثرثرة الكلامية أو عالماً افتراضياً معزولاً عن الواقع.. بل أصبحت جزءاً فاعلاً فى بناء العلاقات ومد جسور التواصل الفعال بين العقول الناضجة والثقافات المتنوعة والمؤسسات العلمية الفاعلة، وواحة كبيرة من التفاعل الاجتماعى والاقتصادى والحيوية الفكرية، كما أنها على النقيض من ذلك فهى أرض خصبة لبث السموم الفكرية والشائعات المدمرة وتموج بشبكات من العلاقات المشبوهة والسلوكيات المنحرفة.. ولم يعد بوسع أحد سواء كان فرداً أو مؤسسة أن ينعزل عن هذا العالم الجديد. ما أبرز التحديات التى تواجهنا فى إطار السعى لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية؟ - توجد عدة تحديات فى إطار سعينا لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية، يأتى على رأس هذه التحديات: - بطء حركة الفكر الإسلامى فى التعاطى مع الواقع وعدم القدرة على استيعاب متغيراته، وبالتالى الخروج من دائرة التأثير لحساب رؤى وأفكار بعضها بعيدٌ عن هويتنا وخصوصيتنا الحضارية، وبعضها انحرف بفكره عن قيم وصحيح الإسلام. - عجز حركة الفكر عن إبراز ما فى الإسلام من كمال وجمال وجلال وهو ما يمكن أن نطلق عليه «إشكالية الوسائل مع عظم المقاصد»، مع دوران حركة هذا الفكر فى دائرة التبرير والدفاع وليس المبادرة والإبداع. - التأويل المجافى للنص الدينى قرآناً وسنة لمقاصد الشرع وحكم الشارع، وتوظيفه فى المعترك السياسى، بل وفى تبرير وشرعنة العنف والإرهاب، مع التلاعب بمفهوم الوسطية، فأشد التيارات تطرفاً تدعى الوسطية؟!، مع ادعاء الفرقة الناجية من الجميع، فالكلُ يقصرها على حزبه وجماعته وفرقته ومؤسسته دون سواها. - تنامى الخطاب الطائفى والمذهبى فى الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية والبعد عن قيم التعايش والتسامح والاختلاف والتنوع والتعددية، مع تغذية الصراع المذهبى، وقد تحول الأمر من الصراع الفكرى إلى الصراع الحقيقى والاقتتال المادى وخير نموذج على ذلك ما نشاهده من قتل ودماء فى العراق واليمن وسوريا. - اتساع الفجوة المعرفية بيننا وبين الآخر، وتسلل اليأس وفقدان الثقة فى الذات المسلمة والعقل المسلم، مع غياب المشروع الحضارى المتكامل القادر على العودة بنا لمضمار الحضارة الإنسانية. - الحاجة لتوليد علوم جديدة تعيد قراءة النصوص الدينية وخدمتها بما يبرز صحيح الدين، ويصنع فكراً تجددياً يكون قادراً على دفع الجهالة ويكشف الزيف والضلالة، وفى نفس الوقت يدفع شبه المشككين ويرد على أسئلة الحيارى والمستفهمين، ويدفع بنا لحركة الحياة كقادة منتجين وليس كمتلقين مستهلكين. - انتشار الفكر الحداثى والتغريبى البعيد عن نموذجنا المعرفى بالإضافة لدعاة التفكيكية والفوضى الخلاقة والذوبان فى النظام الكونى الجديد والذى تتلاشى معه الحواجز ليس فقط الحواجز الزمانية والمكانية بل والقيمية والأخلاقية، فالاستعمار الآن ليس احتلالاً عسكرياً، بل نموذجًا معرفيًا يروجُ له -من خلال وسائل التواصل والاتصال الحديثة والبرمجيات الخبيثة والأطروحات المنمقة- على أنه المنتصر.. يقتلعنا من جذورنا الحضارية ويجعلنا مهزومين فكرياً ومعرفياً، ومواجهة هذا التيار من أهم تحديات تجديد الفكر الدينى والعلوم الإسلامية. - عدم التكامل المؤسسى بين الهيئات العلمية والأكاديمية والدعوية العاملة فى صناعة وصياغة العلوم الإسلامية والفكر الدينى عربياً وإسلامياً، بل ووجود صراع بين بعضها وصولا للزعامة المتوهمة. - التشكيك فى المرجعية بل ومحاولة خلق مرجعيات تتجافى مع القواعد والثوابت التى تلقتها الأمة بالقبول، كما يحدث فى مصر بالتشكيك فى المؤسسة الدينية بأفرعها الثلاثة الأزهر والإفتاء والأوقاف والادعاء بأن علماءها علماء سلطان وأنهم يدورن فى فلك الحكام تبريراً وتدليلاً ما يفقد ثقة الناس فيهم.. لتصنع مرجعية أخرى بعيدة عن هُويتنا وصحيح شريعتنا وهذا تحد لو تعلمون عظيم. - تحمل الإسلام تبعات الرؤية الحركية لبعض التيارات والجماعات وعدم الفصل بين الإسلام كدين ورسالة وبين أقوال وأفهام وأفعال المسلمين، ما يجعل من تحديات هذا الفكر الإسلامى وكذلك تجديد العلوم الإسلامية بيان الفواصل بين الإسلام كنص شرعى ودين محكم ورسالة خالدة وصالحة وبين فهومٍ عرضة للخطأ والغلو والزيغ والضلال. الشباب هم عماد الأمة ودعامة نهضتها ما رؤيتكم للمزج بين خبرة الشيوخ وقوة وحماسة الشباب فى بناء الوطن واستشراف مستقبله؟ - بداية نؤكد أن الأمم والدول تنهض على العقول الفارقة من أبنائها، وعلى تكامل الأدوار بين أجيالها، فتمتزج خبرةُ الشيوخِ وحكمتهم بحماسة الشباب وقوتهم، لذلك فنحن فى أمس الحاجة لصناعة رؤية متكاملة لصناعة هذا المزج لندفع أبواق الصراع التى تحرش بين الأجيال والتى رأينا آثارها المدمرة فى مصر من 2011 وما بعدها، فالأمم تبنى على أكتاف أبنائها المخلصين الأقوياء الذين تجرى فى عروقهم دماء الشباب وحكمة الشيوخ، وتفيض قلوبهم بالشجاعة والإقدام والمثابرة والوطنية، يؤمنون بقضية بناء المجتمع وتطوره ويستشرفون المستقبل ويعملون على أن يكونوا شركاء فى صناعته.