انتظرت، مع كثيرين غيرى، ان تنفى مؤسسة الرئاسة، أو تكذب، أو تفسر ما أورده الزميل «ياسر رزق» فى مقاله المهم فى «المصرى اليوم» بعنوان «وما ادراك ما الجيش إذا غضب»، لكن انتظارنا طال دون جدوى. قال ياسر رزق بالنص «اشتد الغضب، وعربدت الشكوك فى النفوس تجاه النويا، عندما دعا وزير الدفاع الى اجتماع فى رئاسة الجمهورية بدعوى مناقشة تأمين مليونية الحساب التى دعت اليها قوى يسارية وليبرالية.. غير ان الاجتماع لم يناقش هذه القضية، انما كان موضوعه مؤامرة استبعاد النائب العام، واتضح ان الغرض هو محاولة الزج بالقوات المسلحة والاستقواء بالجيش فى معركة اخضاع القضاء، وذهبت الشكوك بعيدا الى حد التساؤل عما اذا كان الغرض ايضا، محاولة توريط الجيش فى اعتداءات ميليشيات الاخوان على المتظاهرين فى تلك المليونية التى عرفت باسم «جمعة الغدر». لم يرتدع الذين ارادوا استخدام قوة الجيش العسكرية للاطاحة بالنائب العام، وتقويض استقلال القضاء، والاعتداء على المعارضين لسياسة الاستحواذ والاقصاء والفتونة والاغترار بالقوة التى يتبعها قادة الحكم الجديد من جماعة الاخوان المسلمين، ولم يتراجعوا عن موقفهم، الا لان قائد الجيش ووزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسى رفض المهمة، وحذر من عواقبها الكارثية على المؤسسة العسكرية ، وعلى الوطن فضلا على اعتراضه وعدد من قادة الجيش وضباطه على المسعى الدءوب لقادة الاخوان وتيار الاسلام السياسى وعدد من القوى المدنية المحسوبة عليه، للمطالبة بمحاكمة المشير «محمد حسين طنطاوى» والفريق «سامى عنان» وتلويث سمعتهما، وترويج شائعات حول ما يسمى بالخروج الآمن لقادة المجلس العسكرى وصولا الى ما أسماه «ياسر رزق» اذلال القوات المسلحة، واخضاع المؤسسة العسكرية لهيمنة الجماعة التى صعدت الى السلطة، بعد ان نكصت بعهدها للمجلس العسكرى، وللرأى العام، فترشحت على كل مقاعد البرلمان، بعد ان وعدت بالترشح على 30% فقط من مقاعده، وقدمت مرشحين للرئاسة بعد ان زعمت انها لن تقدم على ذلك! اختار الفريق «السيسى» بموقفه المبدئى الشجاع ان ينتمى الى التاريخ العريق الناصع البياض للعسكرية المصرية فى تأسيس الدولة الحديثة، وحماية الشرعية الدستورية، ودولة القانون والحق التى تؤسس لنهضة حقيقية صناعية وزراعية واجتماعية، ترفع من شأن المرأة، وتمنحها كافة حقوقها السياسية والاجتماعية، وفى كل مراحل بناء الدولة الحديثة، لعب الجيش المصرى هذه الادوار، فضلا عن تصدره مشهد المواجهة مع سياسة الغرب الاستعمارى و الاحتلال الاسرائيلى. وعندما تولى محمد على حكم مصر عام 1805، ادرك ان مشكلتها الحقيقية، انها بلد بلا جيش منظم، وان القوى العسكرية فى يد امراء المماليك الغربيين عنها، فبدأ يفكر فى بناء جيش مصرى حديث يعتمد على المصريين، ففرض عليهم التجنيد الاجبارى، ودربهم على فنون الحرب الحديثة، وما لبث ان انشأ جيشا قويا يتطلب ما هو اكثر من تدريب الجنود على فنون الحرب. فالجيش يحتاج الى مستشفيات عسكرية، والى خبراء فى الادارة، والى صحف تنشر الدراسات العسكرية، والى مصانع لصناعة الملابس والاسلحة، وورش لصناعة الاحذية، وقبل هذا وذاك يحتاج الى اقتصاد قوى يستطيع ان ينفق على هذا الجيش. ومن هذا المنطلق بدأ مشروع النهضة الذى قاده«محمد على» فتم تعبيد الطرق وشقها، وبناء السفن والتوسع فى زراعة القطن، وغيره من المحاصيل التى تسد حاجة البلاد، وارسال البعثات الى الخارج، وتعلم شئون الادارة والطب والهندسة، واصدار الصحف للربط بين اجزاء الدولة وتقسيم البلاد الى مدريات ومراكز وقرى، وانشاء مدرسة الألسن لاتاحة الفرصة امام المصريين للتعامل مع الاجانب الذين تحتاج الى خبراتهم البلاد، وهكذا كان انشاء الجيش الوطنى القوى هو بداية مشروع النهضة الذى بناه «محمد على». وكان تمصير الجيش المصرى، وزيادة عدده الى الاعداد المقررة له، بعد هزيمة «محمد على» وتسليم قيادته للضباط المصريين، هى احد الاهداف التى حركت عوامل الثورة العرابية فى عام 1882 لتضم الى هذا المطلب المطالبة بإنشاء مجلس نيابى كامل السلطات، يمثل اهالى البلاد. وكانت الهزيمة التى لقيها الجيش المصرى فى عام 1948، هى التى حركت دوافع ثورة يوليو 1952، وباتت اعادة بنائه، هى الاساس الذى بنى عليه الرئيس «جمال عبد الناصر» مشروع النهضة فى عهده، الذى دفعه الى انشاء المشروعات الكبرى لتحويل مصر الى بلد صناعي، وتنمية اقتصادها بما يشبع احتياجات شعبها. وعبر هذا التاريخ الممتد كانت المؤسسة العسكرية رمزا لوحدة الشعب، واستقلال الوطن، واستقراره داخل دولة مركزية تهيمن على شئون البلاد من اقصاها الى اقصاها، ويقف فيها المواطنون سواء امام القانون، وارتفع منذ ثورة «عرابى» وحتى ثورة 19 شعار مصر للمصريين، وتمكنت البلاد فى ظل هذه الظروف من حل المشاكل التى تنشأ فى اطار الجماعة الوطنية الواحدة، وشكل وجود الجيش الوطنى القطب الذى ينجذب اليه، وتوحد داخله الجميع، وتتجه اليه انظار الجميع حين يتهدد الوطن خطر داخلى او خارجى. وعبر تاريخها الممتد أثبتت المؤسسة العسكرية انحيازها التام للشرعية الشعبية، حدث هذا عندما نشب صراع على السلطة بين «عامر» و«ناصر»،فانحازت لما كان يمثله عبد الناصر من شرعية دستورية وشعبية، وعندما تكرر هذا الصراع فى بداية عهد«السادات» حسمته لصالحه. وعندما قامت ثورة يناير، وبدا واضحا ان هناك تناقضا بين الشرعية الدستورية والشرعية الشعبية، لم تتردد فى الانحياز للشرعية الشعبية، ونزل الجيش الى الشوارع مشترطا الا يكلف بأى عمل يوجه للمواطنين، وحسم امره وانحاز الى مطالب الشعب، وسعى المجلس العسكرى فى فترة حكمه ان يكون ضامنا حقيقيا للتغير الديمقراطى والاصلاح السياسى، ومشى على توازنات صعبة اوقعته بفعل اختلال التوازن السياسى فى الساحة السياسية لتجارب من الصواب والخطأ، شكلها لجوء تيار الاسلام السياسى وجماعة الاخوان المسلمين وانصارهم من التيار المدنى الى استخدام اساليب ديمقراطية كالتظاهر للدفاع عن اهداف حزبية وانتخابية، برفع شعار يسقط حكم العسكر، والتمترس خلفه فى كل تجمع او مظاهرة، بينما المجلس العسكرى يحاول بكل جهده احداث توازن بين الضغوط والحقوق، والواجبات والالتزامات، ثم ساهم بإرادة قيادته ورغبتها فى ان تنتقل السلطة بشكل سهل وسلس، وتوخى ما حدث فى بلاد اخرى، انقسمت فيه الجيوش والشعوب على نفسها، فى وحل الحروب الاهلية. يرصد المفكر «انور عبد الملك» قاعدة التحرك المصرى صوب المستقبل قيقول «انها امتداد للقاعدة التاريخية لنهضة مصر وانجازاتها منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى حرب اكتوبر، وهذه القاعدة تتمثل فى العروة الوثقى اى الجبهة الوطنية المتحدة بين شعب مصر وجيش الوطن» وازيد عليه فلا تسمحوا لأحد بفصم أواصر هذه العروة الوثقى.