"إنها والله للحظة تمتزج فيها المشاعر أن أقف بينكم اليوم على ثرى غزة الحرة الصامدة والمحاصرة في آن واحد، فهذه المدينة كانت عبر التاريخ جسرا يربط بين جناحي الوطن العربي ويعبر منه العرب من أهل الجزيرة والعراق وبلاد الشام إلى ديار أشقائهم في مصر وحوض النيل وشمال إفريقيا. وإنها والله للحظة لابد للعربي أن يشعر معها اليوم بالحزن إذ لم يعد هذا الجسر الواصل بين بلاد العرب قائما وفاعلا كما كان، إذ إن الظلم التاريخي الذي حل بالأشقاء في فلسطين منذ ستة عقود ونيف مازال نكبة إنسانية لم يستطع المجتمع الدولي أن يضع حدا لها حتى الآن". هكذا بدأ سمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني خطابه الذي ألقاه في احتفالية تدشين مشروعات إعادة إعمار غزة خلال زيارته التي وصفت بالتاريخية يوم الثلاثاء المنصرم للقطاع راغبا من وراء ذلك لرصد مكنون صدره عندما وطأت قدماه مع الوفد الرفيع المستوى الذي رافقه أرض غزة التي أدرك أنها مع سكانها تقيم داخل وجدانه وعقله. لم يشأ الأمير أن يجعل من هذا الخطاب حالة وجدانية فحسب لكنه لمس فيه مفردات الواقع الفلسطيني بكل تجلياته وآلامه وأشواقه للحرية وللعدالة والكرامة والدولة المستقلة فضلا عن تجاوز حالة التشظي التي تسوده بين عدد من فصائله الوطنية والإسلامية وهو أمر يرسخ حرصه على وحدة هذه الفصائل ولا يكرس الانقسام كما رأت بعض الدوائر الفلسطينية التي أبدت تخوفا من تداعيات الزيارة على المصالحة الوطنية. والمتأمل في هذه الزيارة التي استغرقت ست ساعات يرصد أنها تتجاوز نتائجها المادية الملموسة المتمثلة في البدء في سلسلة من مشروعات إعادة إعمار القطاع التي تعرضت بنيته التحتية للتدمير من فرط عدوانية الكيان الصهيوني في عملية الرصاص المصبوب التي شن فيها حربا متواصلة امتدت لأكثر من عشرين يوما بنهاية العام 2008 ومطلع العام2009 إلى جملة من الدلالات التي تؤشر إلى بدء مرحلة جديدة من التعاطي العربي مع إشكالية الحصار الصهيوني. أولى هذه الدلالات تتمثل في أن ثمة إرادة عربية تبلورت لكسر هذا الحصار بالتعاون والتنسيق مع القيادة المصرية التي قدمت كل وسائل الدعم اللوجستي لإنجاح الزيارة فضلا عن التسهيلات الخاصة بإدخال المواد المستخدمة في مشروعات إعادة الإعمار التي تم تدشينها خلال الزيارة والتي تبلغ قيمتها بعد أن قرر أمير قطر زيادتها أثناء وجوده في القطاع إلى 415 مليون دولار بعد أن كان مخصصا لها مبلغ 264 مليون دولار فقط وذلك من شأنه أن يرفع سقف الحالة الإعمارية التي يتطلع إليها أهل غزة الذين تذوقوا طعم الحرمان من أبسط متطلبات الحياة اليومية نتيجة الدمار الشامل الذي طال المنازل والمصانع والمرافق والملاعب والطرقات والشوارع وبالتالي فإنه من المنتظر خلال سنوات معدودة أن تستعيد غزة بهاءها وتزداد توهجا بفعل المشروعات التي انطلقت بعد هذه الزيارة النوعية. ثاني الدلالات تتجلى في أن الخطوة القطرية باتت تجسد أنموذجا على إمكانية القيام بمبادرات عربية كبرى تتسم بالفاعلية والشمول لكسر الحصار الصهيوني على القطاع بعد أن تركت هذه المهمة لمبادرات جزئية من قبل بعض الأطراف العربية أو مبادرات دولية وبالذات من قبل البرلماني البريطاني جورج غالاوي الذي قاد بنفسه سلسلة من حملات الدعم والإغاثة للشعب الفلسطيني وكابد من جرائها الكثير من العنت خاصة من أجهزة أمن الرئيس السابق حسني مبارك بينما شهدت حملاته الكثير من التسهيل في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير. واللافت أن ثمة تعهدات - وفقا لخطاب سمو الأمير في القطاع - من دول عدة عربية وغير عربية إثر العدوان بتقديم مساعدات لغزة لرفع بعض المعاناة عن أهلها الذين أدمت الحروب أجسادهم ومازال الحصار يضيق عليهم سبل الحياة الكريمة ويحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية وهم مازالوا حتى هذه اللحظة ينتظرون أن يفي من قطعوا تلك التعهدات بوعودهم كي يتسنى إعادة إعمار القطاع وترتفع بعض المعاناة عن أهله الذين آثروا الصمود في وجه آلة الحرب الجبارة وتحمل ويلاتها على التسليم والرضوخ لصلف الاحتلال وغطرسته حتى وإن خذلهم من خذلهم من ذوي القربى ومن أدعياء الديمقراطية والمتشدقين بحقوق الإنسان(في الغرب بالطبع). وتكمن الدلالة الثالثة في أن ثمة قيادة عربية قادرة على اختراق ما يمكن بوصفه بالفيتو الأمريكي الوهمي والذي للأسف تضعه في حسبانها معظم النظم الحاكمة وأظن أن ثورات الربيع العربي التي اتسع مداها من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن ثم سوريا شكلت العامل الرئيسي في تحرير النخب السياسية العربية من قبضة هذا الوهم الذي ظل سيفا مسلطا على رقاب القادة العرب أو بالأحرى هم الذين وضعوه على رقابهم خوفا على مواقعهم. وأتذكر أن الشيخ حمد كان على رأس مستقبلي إسماعيل هنية بمطار الدوحة الدولي لدى قيامه بزيارة قطر عقب توليه حكومة الوحدة الوطنية الأولى التي شكلها في أعقاب فوز حماس في انتخابات 2005 وهو ما يتعارض مع البرتوكول القطري الذي لا يلزم الأمير باستقبال من هم دونه من رؤساء الوزارات أو غيرهم بينما وزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط رفض الاجتماع به لدى زيارته للقاهرة في نفس الجولة إن لم تخني الذاكرة وتذرع بأسباب مرضية ربما استجابة لتعليمات من القيادة المصرية آنذاك التي كانت تنظر إلى حركة حماس بحسبانها عدوا وخصما. ولاشك أن الميزة النسبية التي وفرتها ثورة الخامس والعشرين من يناير تتجسد في أنها غيرت المنظور المصري لحركة حماس التي بات قادتها يستقبلون بالقصر الرئاسي بمصر الجديدة بما في ذلك خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة في غزة ويمكن القول باطمئنان إنه من دون هذه الثورة لما كان بوسع سمو الأمير القيام بزيارته للقطاع وهو ما أقر به الشيخ حمد في خطابه بغزة والذي عبر فيه عن شكره وامتنانه لمصر ولقيادتها الجديدة. إن زيارة سمو الأمير لغزة تصوغ زمنا جديدا يعيد الاعتبار لانحياز مؤسسة الحكم العربية إلى الهموم القومية للأمة وفي صدارتها القضية الفلسطينية وفي القلب منها مكابدات قطاع غزة بأهله الصابرين المثابرين وهي تبعث برسالة لكل من يهمه الأمر من قادة الأمة بأن يعتمدوا على الله وعلى مقومات أوطانهم وأمتهم ويتحركوا صوب كسر حصار غزة الذي كان بالإمكان تجاوزه مبكرا لو توحدت إرادتهم لاختراقه تمهيدا لإنهائه تماما وهنا تكمن قيمة الزيارة والزائر. وفي الأخير أقتبس هذه الكلمات من خطاب الأمير لأهل غزة والتي تختزل رؤيته القومية للوقوف إلى جانبهم ويقول فيها: " إن وقوف أشقائكم العرب معكم في كل الظروف والأوقات، ليس معروفا يسدى أو جميلا يحفظ، بل هو الحق والواجب ونحن في قطر كنا وسنكون من أول المبادرين ولن نضن على أهلنا في غزة وفي فلسطين بما نستطيع من عون، انطلاقا من واجبنا القومي والإنساني، فمساعدة أهل غزةوفلسطين ليست منه ولا هي وعود لفظية بل هي واجب من الأخ نحو أخيه". ومن هنا فإن إعادة إعمار غزة ينبغي أن تعطي أولوية بتنفيذ القرارات العربية والدولية التي اتخذت إثر العدوان ولا تزال تنتظر التنفيذ بعد مضي خمس سنوات". السطر الأخير: تمددي بالروح. بمرايا القلب اغزلي مناديلك الخضراء في زوايا الحدائق المنثورة بعينيك قولي لصمتي أن يفك ضفائره للجوقة أن تعزف صيرورة العشق أعيديني إلى زنابق سواحلك الحبلى بالحلم فأنت المبتدى دونما انتهاء والرحلة إلى قصيدة تصوغ براءتي تصنع الدفء في الأنحاء