تخطت ال 18 ألف، مصاريف المدارس اليابانية للعام الدراسي الجديد وطرق السداد    ربيع: تراجع السفن العابرة بقناة السويس خلال أبريل بسبب توترات البحر الأحمر    القضية الفلسطينية ورفض التهجير وإدخال المساعدات على رأس الأولويات    ترامب يدافع عن الطائرة هدية قطر: لست غبيا لأرفضها.. وقدمنا لهم الكثير من مساعدات الأمن والسلامة    أتالانتا ضد روما.. التشكيل الرسمي لقمة الدوري الإيطالي    من الإعارة إلى التألق.. إيريك جارسيا "ورقة رابحة" في يد فليك    بركلات الترجيح.. «منتخب الشباب» يهزم غانا ويتأهل لنصف نهائي أمم أفريقيا ومونديال تشيلي    قرار من الجنايات بشأن المتهم بخطف ابن أخيه الطفل «مالك» بالعياط    مصرع طفل أسفل عجلات القطار في قنا    محبوس بكفر الدوار ومزور اسمه.. كيف سقط المتهم في جريمة شقة محرم بك؟    وزيرا الصناعة والثقافة يستعرضان خطة العمل مع السفراء    أستاذ علوم سياسية: إنهاء صفقة عيدان ألكسندر خطوة مهمة فى دعم القضية الفلسطينية    تطور جديد فى خلاف أبناء محمود عبد العزيز ضد بوسي شلبي    «بيئة العمل تحتاجهم».. 4 أبراج تترك أثرًا إيجابيًا لا يُنسى في أماكنهم    عالم بالأزهر: هذا أجمل دعاء لمواجهة الهموم والأحزان    إطلاق الخطة العاجلة للسكان والتنمية والبرنامج القومي للوقاية من التقزم    الأمم المتحدة: سكان غزة يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي    ما حكم إقامة العلاقة الزوجية أثناء الحج؟.. أمين الفتوى يجيب    نادية الجندي تخطف الأنظار بإطلالة شبابية جديدة | صورة    يونيفيل: العثور على 225 مخبأ للسلاح جنوبي لبنان    أمينة الفتوى: هذه أدعية السفر منذ مغادرة المنزل وحتى ركوب الطائرة لأداء الحج    أمينة الفتوى: الزغاريد عند الخروج للحج ليست حراماً لكن الأولى الالتزام بالأدب النبوي    المؤبد لقاتل شقيقه داخل مزرعة مواشي بالدقهلية بعد تنازل الأب عن الحق المدني    قطرة شيطان.. قتل خالته وسهر بجوار جثتها مخمورًا حتى طلوع الفجر (كواليس جريمة بشعة)    طلاب إعلام الاهرام الكندية تعيد فرقة رضا للجمهور ب إبهار تراثي عصري جديد    بالصور.. الكشف على 3400 مواطن في قافلة طبية لجامعة أسيوط بغرب أسوان    تأجيل إعادة محاكمة 5 متهمين ب"الخلية الإعلامية" لجلسة 10 يونيو    «تلاعب في العدادات وخلطات سامة».. 5 نصائح لحماية سيارتك من «غش البنزين»    عون وعباس والشرع في السعودية خلال زيارة ترامب.. ماذا سيوضع على الطاولة؟    أهم 60 سؤالاً وإجابة شرعية عن الأضحية.. أصدرتها دار الإفتاء المصرية    معاش المصريين العاملين بالخارج 2025: الشروط والمستندات وطريقة الاشتراك    شهادات نجوم الفن.. هل تنهي أزمة بوسي شلبي وأبناء الساحر؟| فيديو    أسعار الحديد ومواد البناء اليوم الإثنين 12 مايو 2025    يُسلط الضوء على المواهب الصاعدة.. الكشف عن الشعار الرسمي لكأس العالم تحت 17 سنة    بعد إعلانه رسميًا.. جدول امتحانات الصف الخامس الابتدائي بأسوان (تفاصيل)    تفاصيل الحملة القومية الأولى ضد مرض الحمى القلاعية وحمى الوادى المتصدعة أسوان    اعتماد أوروبي لقصر العيني كمركز متخصص في رعاية مرضى قصور القلب    أشرف العربى إطلاق تقرير "حالة التنمية في مصر" 18 مايو بشراكة مع "الإسكوا"    فانتازي.. ارتفاع سعر لاعب مانشستر سيتي    موعد وقفة عرفة 2025.. فضل صيامها والأعمال والأدعية المستحبة بها    براتب 6500.. فرص عمل في شركة مقاولات بالسعودية    موعد تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالقاهرة الجديدة    «بعبع» تسريب امتحانات الثانوية العامة.. هل يتكرر في 2025؟| ننشر خطة «التعليم» كاملة    استمرار حملة "تأمين شامل لجيل آمن" للتعريف بالمنظومة الصحية الجديدة بأسوان    مجلس الوزراء يستعرض جهود الدولة لتوطين صناعة الدواء.. مصر تخطو بثبات نحو الاكتفاء الذاتي من الدواء وتصدر لأكثر من 147 دولة.. 180 مستحضرًا و129 مادة فعالة.. وتحقيق وفر بمئات الملايين.. إنفو جراف    مصادر: بورصة مصر تبحث قيد فاليو الأربعاء المقبل    في اليوم العالمي للتمريض.. من هي فلورنس نايتنجيل؟    وظائف خالية اليوم.. برواتب تصل إلى 6500 ريال فرصة عمل لعمال مصريين بالسعودية    عاجل- رئيس الوزراء يتابع ملفات الاتصالات.. ومبادرة "الرواد الرقميون" في صدارة المشهد    البابا ليو الرابع عشر يفتتح رسميًا الشقة البابوية إيذانًا ببداية حبريته في الفاتيكان    تقييم صلاح أمام أرسنال من الصحف الإنجليزية    براتب يصل ل 500 دينار.. 45 فرصة عمل بالأردن في شركات زراعية وغذائية وصناعات خشبية (قدم الآن)    الجيش الملكي يتأهل لدوري أبطال أفريقيا.. والوداد يذهب للكونفدرالية    البنك الأهلي يرغب في ضم كريم نيدفيد    انطلاق فعاليات الدورة التدريبية الرابعة بجامعة القاهرة لأئمة وواعظات الأوقاف    رئيس «دي إتش إل» يتوقع استفادة من التوترات التجارية بين واشنطن وبكين    حالة الطقس اليوم في السعودية    أمام العروبة.. الهلال يبحث عن انتصاره الثاني مع الشلهوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضمير الثقافة القومية
نشر في الوفد يوم 30 - 11 - 2010

بعد أيام قليلة يكون الدكتور، أو الدكاترة »زكي مبارك« قد أمضي تسعة وخمسين عامًا في قبره، حيث قد رحل في الثالث والعشرين من يناير عام اثنين وخمسين بعد التسعمائة والألف. ومنذ رحيله وإلي اليوم تمر ذكراه مرور الكرام، كأنه قد حكم عليه أن تجحده الأوساط الثقافية حيا وميتًا، مع أنه من القلائل البنائين في حقول العلم والثقافة في عصرنا الحديث. أقام أبنية شامخة وصروحًا سامقة هيهات أن ينال منها الزمن، بمؤلفات موسوعية عظيمة الشأن لم يظهر لها مثيل حتي الآن، ولسوف تظل أبد الدهر مصدرًا ثريا لمن يريد فهم واستيعاب الثقافة العربية الأصيلة علي النحو الصحيح؛ وبالأحري لمن يريد أن يصل جذوره بأرضها.
ولربما كان لزكي مبارك آراء صادمة مثيرة للجدل، ناهيك عن صياغتها البلاغية الحادة بل الشديدة الحدة أحيانًا، لا تهاب كبيرًا أو عزيزًا في قولة الحق، حيث كان يمارس النقد والتحقيق والتوثيق والمراجعة بروح وأسلوب المستغني عن كل المكاسب المادية، المتحرر من المجاملات ومن نفوذ العلاقات الشخصية كل ما يعنيه - إذ هو يكتب - هو أن رأيه مبني علي أسانيد من العقل والشعور والوجدان فيما يري أنه الحقيقة، وأن يكون في كل ما يكتب متسقًا مع ضميره الذي كان أضخم ما فيه، وكانت لضخامته ظلال وارفة تمتد علي مساحات كبيرة، فتضعف الضوء في بعض الأشياء، وتحجبه عن بعض الجوانب التي لو رؤيت في ضوء كاف فلربما غيرت من رأيه أو عدلته علي الأقل. لكن الجميل فيه أنك تري هذا وتدركه بوضوح أثناء قراءتك له سواء في أبحاثه أو في مقالاته الصحفية أو دراساته النقدية أو مراجعاته للكتب الصادرة حديثًا، فلا تحنق عليه، فلسوف يشفع له ضميره عندك، ولسوف يملؤك برحيق فيه شفاء، ويضيء في عقلك عشرات المصابيح، هي نفسها التي تغريك بضوئها علي أن تراجعه وتنتقده وأنت علي تمام الثقة بأنك لو جاهرته بنقد لك فيه فإنه متلقيه علي الرحب والسعة، فإن كان رأيك صائبًا فهو أول من يصفق لك بالتحية والإعجاب، أما إن كان رأيك، والعياذ بالله، فجا غير مدروس، فعليك - يا حلو - أن تتلقي وعدك: إن الإنس والجن إذا اجتمعوا لن يفلحوا في تخليصك منه إلا وقد سواك علي الجنبين وعلمك كيف تراجع الكبار بل أن تنتقدهم!
علي أن أفضال زكي مبارك علي الثقافة العربية المعاصرة لا ينكرها إلا موتور أو جاهل. هي منجزات علمية لم تكن تتحقق علي هذا النحو من الدقة والأمانة العلمية إلا علي يدي رجل كزكي مبارك علي وجه التحديد، ينذر لها عمره وصحته، ويضحي بكل ما كان يجب أن يتمتع به من رفاهية وأبهة اجتماعية تليق باسمه ومكانته العلمية ومركزه الأدبي ويحرم عياله من بحبوحة كان جديرًا بتحقيقها لهم. كل ذلك في سبيل أن ينجز هذه المشاريع الثقافية الضخمة المبهرة، التي تحتاج في كل مشروع منها إلي مؤسسة كبيرة تضم عددًا من الرجال الأصحاء بدنيا ونفسيا وعقليا. إن القارئ المعاصر حين يتصفح سفرًا من أسفاره مثل: (النثر الفني في القرن الرابع الهجري) - بجزئيه الكبيرين - يكاد لا يصدق أن فردًا واحدًا يقدر علي النهوض بعمل كهذا وحده؛ أن يقوم بحرث قرن كامل من الزمان اتسم بين القرون الهجرية بغزارة الكتابات الأدبية النثرية وتنوعها وعمقها؛ ثم يقوم بفرز وغربلة كل هذا الركام من الكتابات، وتحليلها وفحصها، وإخضاعها للدرس والتقويم، وتجليتها؛ ثم بعثها إلي الوجود من جديد بعد طول هجران وغفلة، مبرزاً ما تحتويه من قيم فنية وأدبية وأخلاقية إيجابية أصيلة لا يمكن تعويضها.
كذلك الأمر بالنسبة لكتابه الكبير عن الأخلاق في الأدب والتصوف، وهو أيضًا من جزءين ضخمين، ثم كتابه الكبير: (الأخلاق عند الإمام الغزالي). وكتابه عن عبقرية الشريف الرضي، الذي يعتبر وحده كتابًا فذًا فريدًا غير مسبوق ولا متبوع، فعلي حد علمي يعتبر هذا الكتاب هو الوحيد الذي يقدم شاعرًا خطيرًا بشكل متكامل من الألف إلي الياء، بحيث يقف من يقرأه علي عبقرية الشريف الرضي ويفهم أبعاد شعره وما يتضمنه من جواهر إبداعية. نعم! لست أظن أن كتابًا نقديا بلغ ما بلغه هذا الكتاب من إحاطة ودقة ونفاذ وعمق في اكتشاف البيئة الفنية وامتداد جذور الشاعر في أرضها، واستكشاف العلاقة الجدلية الخصيبة بين الشاعر ومجتمعه وعصره وتراثه، لعله من المثير للدهشة والمرارة أن معظم هذه الكتب العظيمة لم تنشر في مصر إلا في طبعات محدودة، في حين تتخاطفها دور النشر العربية وتحقق من ورائها ثروات طائلة.
سيظل زكي مبارك يمثل في نظري قيمة عربية عظيمة، إلي جانب كونه قيمة إنسانية أكثر عظمة. إنه نموذج للأزهري الذي شمخ بأنفه عن جدارة، وواجه الحياة الغربية الأوروبية ونهل من ثقافتها الخلابة، بقلب سليم وروح قوية وجبهة عالية. لقد علم نفسه اللغة الفرنسية باجتهاده الخاص. وكان قد حصل من الأزهر الشريف علي شهادة »الأهلية«؛ ثم التحق بالجامعة المصرية التي لم تكن بعد قد صارت حكومية في سنة خمس عشرة بعد التسعمائة والألف. فما أن تخرج فيها حتي شد الرحال إلي باريس كسلفه القريب طه حسين، وسلفهما رفاعة رافع الطهطاوي.
وحين سافر زكي مبارك إلي باريس كانت تلك الحكاية حاضرة في وعيه، سيما وقد شاهد نماذج كثيرة من المبعوثين الذين عادوا بسحن مختلفة وألسنة ملكونة وزوج بيضاء وفرنجة كاملة عزلتهم عن أصولهم وأنكرتهم أصولهم. فكان زكي مبارك محصنًا ضد الدهشة، ضد الصدمة الحضارية المبدئية التي واجهت من سبقوه فصدَّعت بنيانهم الشخصي والنفسي والعقائدي فتحولوا إلي كائنات »بزرميط«. وذلك طبعًا باستثناء نماذج فذة كطه حسين وتوفيق الحكيم وأمثالهما ممن تمكنت منهم أصولهم قبل السفر فهيهات أن تتزعزع وإن اهتزت قليلاً إلا أنها هزات إيجابية جعلتهم ينتبهون إلي المفارقات الجوهرية بين أصولهم وما طرأ عليهم من ثقافات مختلفة ومن ثم أعطتهم مصابيح علمية استناروا بها فأناروا لشعوبهم بعد عودتهم.
غير أن زكي مبارك وهو يدلف داخل جامعة السوربون بخطي واثقة كان ثمة حقيقية تاريخية ماثلة في يقينه فلم يكن لينسي مطلقًا أن جامعة السوربون هذه قد أنشئت في الأصل تقليدًا ومحاكاة للجامع الأزهر والتدريس علي غراره. كذلك لم يكن لينسي أن ثقافته العربية الإسلامية هي التي لقحت العقل الأوروبي ببذور العلم والثقافة ورمت علي شواطئه طمي الخصوبة الإنسانية.
والواقع أن بذور المقاومة كانت قد نمت في قلبه منذ وقت مبكر، منذ أن غادر قريته (سنتريس) بمحافظة المنوفية قادمًا إلي القاهرة ليلتحق بالأزهر، حينذاك فوجئ بأن القاهرة قد بدأت تخلع برقع الحياء وتتخلي عن الكثير والكثير من أخلاقيات المصريين وتقاليدهم الأصيلة في ثوبها العربي القشيب. كانت الكذبة المروعة - أو هكذا يراها - التي أطلقها الخديو إسماعيل معبرًا بها عن اعتزامه جعل مصر قطعة من أوروبا قد ظهرت ثمارها في شكل البيوت وكرنفال الملابس وتناقضات السلوك وكثير من الظواهر المرضية المقلقة. وكانت الظاهرة الكبري المتضخمة تتمثل فيما يشبه الطبقة الجديدة التي راحت تسلك وتفكر وتعيش بطريقة أوروبية صرفة، وتلوي اللسان عنوة لتطوعه للنطق باللكنة الفرنجية، وتسري الطراوة في اللهجات والطباع بشكل أثار تقززه كفلاح صلب خشن. ولم يكن يشعر بهذه الغضاضة سوي نفر قليل جدًا من أبناء الفلاحين الأفحاح. وكان المقلق أن أبناء الشعب الأمي في القاهرة والعواصم الإقليمية قد جبلوا علي تقليد أبناء الطبقات العليا المجبولين بدورهم علي محاكاة المستعمر والتشبه به في كل شيء. وثمة فئة قليلة من نوابغ أبناء الطبقة المتوسطة الزراعية الحريصين علي طلب العلم ولو في الصين كما أوصي النبي عليه الصلاة والسلام، والمزودين في نفس الوقت بثقافة قومية قوية، كانوا يتميزون غيظًا وغضبًا إذ يرون القاهرة وبقية العواصم قد أصبحت تموج بكل التناقضات السيئة، وتضطرم بأجناس عديدة، وجاليات لا حصر لها تنشر في المجتمع أمراضًا سلوكية وصورًا من الانحلال يندي لها جبين الوطنيين، فيزداد الشعور بالمحنة عمقًا في نفوسهم. بعضهم كان يصاب بالقهر والعجز عن المقاومة وعن المسايرة في نفس الآن. والبعض الآخر وهو الأقوي والأكثر كان يتمسك بجذوره القومية في صلابة وإصرار إلي حد التعصب الأعمي أحيانًا بحيث يرفض كل ما هو أجنبي بشكل مطلق.
ولم يكن زكي مبارك من هؤلاء ولا من أولئك وإن أخذ من كل منهما بعض العيوب وبعض المزايا.
»يتبع«


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.