والحرب العالمية الثانية تلفظ أنفاسها الأخيرة لم يبق علي إعلان انتهائها رسمياً سوي بضع ساعات.. انتحر الطاغية »أدولف هتلر« مع عشيقته »إيفا براون« في مخبأه الحصين بوسط عاصمة الرايخ الثالث »برلين«. ولم تمض سوي بضع دقائق علي حرق جثتيهما خارج المخبأ إلا وكان وزير إعلامه الكاذب الكبير »الدكتور جوبلز« منتحراً هو الآخر، مع زوجته »ماجدا« بعد أن قاما بوحشية منقطعة النظير، بقتل أولادهما الستة بالسم الزعاف. إثر ذلك وألمانيا تستسلم للحلفاء دون قيد أو شرط، انتحر نفر آخر من الطغمة النازية التي حولت أوروبا إلي أرض خراب، كان من بينه »هملر« الجلاد الذي ملأ القلوب بواسطة جهازه المعروف تحت اسم »الجستابو« ملأها رعباً. أما من بقي من تلك الطغمة فقد عوقب عقاباً عسيراً، عما اقترفه من جرائم في حق الإنسانية والسلام.. حوكموا أمام قضاة من الدول المنتصرة الثلاث »الاتحاد السوفيتي وبريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية«.. وكانت المحاكمة في مدينة »نورنبرج« بغربي ألمانيا.. ومن هنا عرفت تاريخياً تحت اسم محاكمات »نورنبرج«.. أما لماذا وقع الاختيار علي تلك المدينة دون غيرها من مدن ألمانيا، فذلك لأنه صدر فيها قانون النقاء العنصري القائم علي أن المنحدرين من أصل آري، هم أكثر شعوب الأرض نقاء، ومن ثم يحق لهم أن يكونوا سادة عالم من العبيد. وثانياً: لأنها كانت المدينة التي تقام سنوياً في ستادها الرياضي الاحتفالات الجماهيرية الحاشدة، باستيلاء الحزب النازي علي السلطة.. وهي احتفالات خلدتها المخرجة الألمانية »ليني رايفنشتال« في فيلمها التسجيلي »انتصار الإرادة«.. وعن واحدة من تلك المحاكمات تجري أحداث فيلم روائي طويل، يمتد عرضه أكثر من ثلاث ساعات أخرجه »ستانلي كرامر« قبل نصف قرن من عمر الزمان. واختار له اسم »الحكم في نورنبرج« كما اختار له كوكبة من أفضل ممثلي وممثلات هوليود، أذكر من بينهم علي سبيل المثال »سبنسر تراس« و»مونتجمري كميفت« و»ماكسميليان شيل« و»جودي جارلند« و»مارلين ديترس« و»بيرنس لانكستر«. وكان نصيبه من الترشيحات لجوائز أوسكار كبيراً إذ بلغ أحد عشر ترشيحاً وخرج من مضمار المنافسة فائزاً بجائزتي أفضل ممثل رئيسي »شيل« وأفضل سيناريو مأخوذ عن عمل آخر ومعظم أحداثه تدور داخل قاعة المحكمة حيث الاتهام لنفر من كبار أساتذة القانون أنهم أثناء إسناد ولاية القضاء إليهم حكموا بتجريم بعض الأبرياء انزالاً لحكم القانون العنصري الصادر في »نورنبرج« بعد استيلاء الحزب النازي علي السلطة بأربع سنوات. والفيلم فيه من روح السينما التسجيلية الشيء الكثير، لأنه ينقل إلي الشاشة ما وقع فعلاً في محاكمات القادة النازيين وأذنابهم الذين أطاعوا أوامرهم طاعة عمياء.. وتكاد أحداثه تدور وجوداً وعدماً حول مرافعتي ممثل الادعاء ومحامي المتهمين. فالأول يقيم ادعاءه علي أساس أنه كان من الواجب علي المتهمين الامتناع عن تنفيذ قوانين أو أوامر مخالفة للضمير بلغت فظاعتها مبلغ الأساطير.. والثاني: يقيم دفاعه علي أساس أنه ما كان في وسع المتهمين عدم إطاعة الأوامر والتمرد عليها في ظل نظام وحشي، خارج علي القانون، مارس مع من يشتبه في رأيهم المخالف، جميع ألوان القهر والتعذيب.. والمحكمة في نهاية الفيلم انتصرت إلي رأي الادعاء.. فكان حكمها بمعاقبة المتهمين بالسجن وبئس المصير. بقي لي أن أقول إن الفيلم رشحته جريدة »نيويورك تايمز« ضمن أفضل ألف فيلم أبدعته السينما العالمية علي مر السنين!