منذ سقوط النظام السابق، في الحادي عشر من فبراير 2011م وحتي الآن، ومصر تشهد حالة من الفوضي والانفلات السلوكي المجتمعي، لم تشهدها من قبل طوال تاريخها الحديث، وقد اتسمت هذه الحالة بسمتين واضحتين، الاولي: تنوع جرائمها وتعدد مظاهرها السلوكية، بدءاً من التظاهرات والاضرابات والاعتصامات السلمية وغير السلمية، مروراً بحوادث اتلاف وتخريب المنشآت العامة والخاصة وقطع الطرق وتعطيل المرافق العامة وخطف الابرياء والقتل والسرقة باكراه والتعدي علي رجال السلطة العامة، وانتهاء بالمخالفات الصارخة لقانون وقواعد وآداب المرور واستخدام الطريق، وتدني لغة الحوار بين افراد الشعب، بل وبين كثير من طبقة النخبة ورموز المجتمع عبر كل وسائل الحوار والتعبير، وانزلاقها في احيان كثيرة إلي مستوي السباب والتناحر الذي يقع تحت طائلة القانون. أما السمة الثانية لهذه الحالة، فهي استمرارها طوال هذه الفترة الطويلة، وامتدادها لتشمل المجتمع بأسرة حتي أن أيا منا لو راجع نفسه في نهاية يومه، لاكتشاف أنه يتصرف له أو بآخر كان جزءاً من هذه المنظومة. وفي الحقيقة، لو بحثنا عن اسباب تلك الحالة المجتمعية السيئة، واستمرارها حتي الآن، لوجدنا أنه مع الشعور الجماعي بأن هذه المنظومة قد اسقطت نظام الحكم السابق، فقد كان الاعتقاد وباتت القناعة بأن استمرارها يحقق باقي رغبات الشعب وآماله، وقد ساعد علي هذا الاعتقاد الخاطئ، الوهن وقصور الاداء الذي لحق بأجهزة وسلطات الأمن والتحقيق، وهو أمر له أسباب عديدة لا مجال لشرحها الآن، ثم استجابة الدولة لكثير من المطالب رغم عدم مشروعية وسيلة المطالبة بها، بل ورغم عدم مشروعيتها في ذاتها في حالات كثيرة، وعدم ملائمة ظروف الدولة لها في كل الاحوال. ما يعنينا الآن، ان نلقي الضوء علي احد اهم الاسباب التي ادت إلي تلك الحالة المجتمعية، وهو الخطاب السياسي للدولة، الذي يُعد الاداة الرئيسية لتشكيل الفكر والرأي العام لدي الشعب ويحدد بقدر كبير توجهاته وضبط حركته، خاصة في مثل مجتمعاتنا الشرق أوسطية النامية. لقد كان الخطاب السياسي للدولة منذ قيادة المجلس العسكري للفترة الانتقالية، ومعه الحكومات المتعاقبة باهتا واتسم بالضعف وعدم الوضوح في مكاشفة الشعب بكل حقائق الاحداث التي مرت بمصر، وعدم القدرة أو الرغبة في كشف وضبط العناصر الخفية المغرضة سواءً الداخلية أو الخارجية التي كان لها دور في كثير من تلك الاحداث. ثم كانت بعض المفردات التي استخدمها الخطاب السياسي سبباً غير مباشر في تقنين تلك الحالة الفوضوية التي تعم المجتمع، مثل الترديد المفرط غير المحدد بأي ضوابط لحق التظاهر والاضراب، ثم الانتاج والاستخدام السياسي لما سمي بحقوق الشهداء والمصابين دون تأصيل موضوعي للمعني أو تصنيف صحيح للواقع، ثم التعبيرات غير الدقيقة عن الوقائع المختلفة ووصف عناصرها والضالعين فيها. وفي بادرة طيبة لتصحيح الخطاب السياسي، فقد أحسن الدكتور هشام قنديل رئيس مجلس الوزراء بتصريحاته الاخيرة التي أعلن فيها عن العجز الرهيب في ميزان المدفوعات والازمة الاقتصادية التي تعاني منها الدولة وتجعلها غير قادرة علي تلبية أي مطالب فئوية في هذه المرحلة رغم التقدير الكامل لها، ثم توجيهاته لوزارة الداخلية لمواجهة أي خروج عن القانون والشرعية بمنتهي الحسم والقوة. إن هذه التصريحات تحتاج إلي التكرار والتأكيد من كل القيادات السياسية والتنفيذية، مع سرعة دعمها بمجموعة قرارات بقوانين تنظم التظاهر، وتمنع الاضراب والاعتصام علي الاقل في هذه المرحلة، ومنع الاشغال المخالف للطريق ووجوب مصادرة منقولات الاشغال، مع وضع عقوبات صارمة في حالة مخالفة تلك القوانين، خاصة أن مفهوم الاضراب بالذات أصبح يهدد كيان الدولة ويطيح بهيبتها. حفظ الله مصرنا الغالية، وهدانا جميعاً سواء السبيل.