قبل أسبوع من ذكرى 11 سبتمبر، كانت المخابرات المصرية تحذر أجهزة الدولة من عمليات إرهابية تعتزم جماعة جهادية ارتكابها ضد سفاراتى أميركا واسرائيل في القاهرة انطلاقاً من قواعد أقامتها في غزة وسيناء. في الموعد المحدد كانت عملية مشابهة تتم في بني غازي بليبيا، وأما في مصر فكانت السفارة الأميركية بوسط القاهرة تحيطها التظاهرات، ثم يتمكن بعض المتظاهرين من تسلق سور مبني السفارة ونزع العلم الاميركي ورفع العلم الأسود الذي تقول بعض الجماعات الاسلامية إنه علم الخلافة. وكانت الاوراق تختلط، فالتظاهرة جاءت احتجاجاً على الفيلم الذي تم إنتاجه في أميركا بهدف الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللاسلام الحنيف وهتافات البعض كانت بالفعل تدين هذا العمل السافل، بينما كانت هتافات البعض الآخر تتجه لأسامة بن لادن لتعاهده على المضي على طريقه! كان الاعتداء على السفارة الاميركية بالقاهرة هو بداية الأحداث التي انتقلت بعد ذلك الى ليبيا حيث قتل السفير الأميركي وثلاثة من مساعديه ثم إلى انحاء كثيرة في العالمين العربي والاسلامي. وقبل ساعات من ذلك كان الموقف في القاهرة مختلفاً. كان هناك وفد تجاري من كبار رجال الأعمال الأميركيين يبحث مع المسؤولين المصريين آفاق التعاون المشترك، وكان مجرد حضور وفد بهذا المستوى يؤخذ على انه رسالة تأييد للرئيس المصري وللحكومة المحسوبة على الاخوان المسلمين. وكان ذلك يترافق مع إعلان أميركي رسمي بدعم الطلب المصري للحصول على القرض المطلوب من صندوق النقد والذي تعّول عليه الحكومة آمالاً كبيرة في عبور الأزمة المالية الحالية. وكانت هناك وسائل عديدة تستهدف تعزيز العلاقات مع واشنطن التي كان الرئيس المصري قد اعلن أنه سيزورها على هامش حضور دورة الأممالمتحدة. فرئيس الوزراء أعلن عن تقديم كل التسهيلات لاستمرار العمل باتفاقية "الكويز" التي تستفيد منها بعض مصانع النسيج المصرية بتصدير منتجاتها لأميركا بشرط أن تكون فيه نسبة معينة من المكونات الاسرائيلية، وفي نفس الطريق كانت هناك رسالة أخرى حيث كان الجدل يدور حول مشاركة وفد من الاخوان المسلمين في مؤتمر سياسي أوروبي جنباً إلى جنب مع وفد اسرائيلي في خطوة لقيت دعم الدوائر الرسمية الأميركية. كان واضحاً أن الرهان على كسب ود الادارة الاميركية يأخذ اولوية لدى قيادة "الاخوان المسلمين" وجناحها السياسي حزب الحرية والعدالة، وكانت تعتقد أنها قطعت شوطاً في هذا الطريق بعد الدعم الاميركي لها في مواجهة المجلس العسكري في الفترة الماضية، فإذا بالاحداث الأخيرة تخلط الاوراق من جديد. واذا بها أمام أخطر إشارة أميركية تتلقاها منذ ثورة يناير مع تصريح الرئيس الأميركي بأن السلطة التي تحكم مصر الآن "ليست حليفة، وليست عدوة". وشتان بين ذلك وبين الحديث عن "الحليف الاستراتيجي" الذي كان هو الوصف الدائم للعلاقة بين واشنطنوالقاهرة حتى بعد سقوط النظام السابق! تعرف واشنطن ان جماعة "الاخوان المسلمين" لم تكن وراء الهجوم على السفارة في القاهرة والذي كان بداية الاحداث التي اجتاحت المنطقة، وأنها كانت تحاول ترشيد الاحتجاج على الفيلم الأميركي السافل، ولكن المشكلة بالنسبة للادارة الأميركية (خاصة في موسم الانتخابات) وبالنسبة للإخوان المسلمين أيضاً، هي ان الموقف هو اختبار خطير للفرضية التي بنت واشنطن عليها سياستها في المنطقة بعد الربيع العربي، والتي دعمت على أساسها أحزاب وجماعات الاسلام السياسي (وفي مقدمتها جماعة الاخوان المسلمين) لاعتبارات كثيرة منها تصور أنها تمثل"حائط صد" يحمي المصالح الأميركية من الجماعات الجهادية الاسلامية المتطرفة. لا يستطيع الاخوان المسلمون البقاء طويلاً "لا حليف.. ولا عدو"، ولا يستطيعون أيضاً الدخول في صدام واسع مع الجماعات المتشددة الآن لأنها تتمدد بأكثر مما توقعوا، وتزايد على الاخوان في الشارع وتستفيد من مناخ عام يزداد فيه الغلو والتشدد. لكن الهم الذي تواجهه مصر أخطر من ذلك بكثير. فالفيلم الأميركي السافل يكشف بلا مواربة- أن هدفه وحدة مصر، وانه ليس إلا جزءاً منحطاً من التآمر لاشعال الحرب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد في مصر. وربما ما ساعد على تجنب الفتنة (حتى الآن!!) هو أن اللعب كان على المكشوف، وان اللاعبين كانوا تحت مستوى الشبهات بكثير. فالمخرج اسرائيلي أميركي، والتمويل من أثرياء اليهود، والاستعانة ببعض أقباط المهجر كانت فاضحة في وقاحتها وفي دلالتها. فكلهم على علاقة مشبوهة بالصهانية وبأجهزة المخابرات الأجنبية، وكلهم يمثلون اتجاهاً مرفوضاً من أقباط مصر قبل مسلميها. ومن هنا كان أقباط مصر أسبق من غيرهم في رفض هذا الانحطاط، وفي الانضمام لاشقائهم في الوطن استنكاراً للإساءة لرسول الله، وكشفاً للمؤامرة على الوحدة الوطنية. لكن المشكلة أن المناخ يسوء، والاتجاه للتشدد يزداد يوماً بعد يوم. ورغم كل الأحاديث عن الاعتدال فإن السمة الأساسية في الحكم الديني أن التطرف هو الذي يكسب حتى يقود أي الكارثة! وعندما يكون المؤمنون بالديموقراطية والمتمسكون بالدولة المدنية متهمين بالكفر والإلحاد، فكيف الأمر مع من يخالفك في الدين؟! وعندما يطالب البعض برأس رئيس الجمهورية الدكتور مرسي لأنه تجرأ وجلس مع مثقفين وفنانين بدلاً من حبسهم باعتبارهم فاسقين وملاحدة، فعلينا ان ندرك حجم الخطر. وعندما يتملك الخوف معظم المسلمين من اتجاهات ظلامية تريد أن تنشر تخلفها وعداءها للعقل والعلم، فكيف يكون حال المسيحيين وإلى أي مدى تصل مخاوفهم ؟ مصر مازالت صامدة، ووحدتها الوطنية مازالت قادرة على هزيمة الفتنة، ولكن الوضع يسوء، والمؤامرات على أمنها ووحدتها تزداد شراسة. والحكم مشغول بالهيمنة على مفاصل الدولة، غير مدرك ان الدولة نفسها تتفكك، وانه حين يضرب التيارات المدنية ويحاصرها فإن المستفيد هو التطرف. مصر مازالت صامدة، ولكنها تسير في الطريق الخطأ، ولا أمل إلا بوحدة كل القوى الوطنية المؤمنة بالدولة المدنية المنحازة للحرية وللعدل الاجتماعي ولعروبة مصر ووحدة شعبها التي صمدت أمام كل التحديات. لا أمل إلا بوحدة هذه القوى لتخوض معركة لا مفر منها لإنقاذ مصر من حرب أهلية يخطط لها، ومن مستقبل تحكمه الجهالة وتعلو في سمائه الرايات السوداء ! نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية