لا أحد ينكر تراجع أسعار بعض السلع فى الآونة الأخيرة والذى جاء نتاجًا طبيعيًا لمبادرات الدولة لمحاربة الغلاء والاصطفاف بجانب المواطن البسيط الذى تحمل تكلفة فاتورة الإصلاح الاقتصادى فضلاً عن المبادرات الشعبية فى كثير من المحافظات لتوعية المواطنين ومحاربة الغلاء بالاستغناء بل ومساهمة بعض التجار الوطنيين من أصحاب الضمائر اليقظة، فى هذا الاتجاه القومى لضبط الأسواق. الرئيس عبدالفتاح السيسى كان حريصًا على توجيه الشكر للمواطن المصرى الذى تحمل عناء سنوات الإصلاح بكل «وطنية» وآن الأوان لجنى ثمار الإصلاح الاقتصادى الذى هو حق أصيل لكل مواطنى هذا البلد، لكن تظل المطالبات قائمة بتحقيق سوق منضبط والسيطرة على الأسعار التى تخضع فى كثير من الأحيان لممارسات احتكارية تحقق ثروات «محرمة» لفئة استحلت قوت المواطنين لجنى أرباح طائلة. نجحت مبادرات الدولة وبعض المبادرات الشعبية فى تحقيق انخفاض ملحوظ فى بعض السلع مثل الدواجن والسكر والأرز والزيت لكن تظل قضية ضبط الأسعار من أكثر القضايا التى تمس المواطنين. «هو فى حاجة بتغلى بترخص تانى».. جملة تكاد تكون على لسان كل مصرى يعيش فى هذا البلد، معبرا بها عن شكواه من معاناته لمواجهة أسعار السلع والخدمات التى لا تعرف معيارا للارتفاع أو الانخفاض. قد تحمل المواطن خلال السنوات الأخيرة تبعات تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى وتعويم الجنيه فى 2016، واستغلال البعض للمواقف ورفع الأسعار بشكل غير منطقى لمجرد ارتفاع سعر أحد مكونات الإنتاج أو زيادة سعر صرف الدولار، ولكن هؤلاء التجار لا يخفضون أسعار نفس السلع فى حالة انخفاض المكونات. ولولا تدخل الدولة ومد الأسواق بكميات من السلع لمحاربة الغلاء لاستمرت الحيرة التى يعيشها المواطن التى دائما ما تجعله يسأل نفسه «لماذا ترتفع الأسعار دائما ولا تنخفض وإذا انخفضت تكون بشكل طفيف جدا؟!»، جعلت «الوفد» وهى تبدأ حملتها تطرح تساؤلا حول طبيعة السوق المصرى وكيف يتم التحكم فى الأسعار. خبراء اقتصاديون، قالوا إن السوق المصرى حر يتبع آليات العرض والطلب والأسعار يتم تحديدها والتحكم فيها على هذا الأساس، ولكنهم أشاروا إلى أن بعض الممارسات الاحتكارية لعدد من السلع الهامة تعصف بآليات العرض والطلب وتجعل التجار والمستثمرين هم المتحكم الرئيسى فى الأسعار وفقا لأهوائهم واتفاقاتهم فيما بينهم. وبالتأكيد فإن من أبرز القرارات التى تسببت فى معاناة المواطن خلال السنوات الثلاث الماضية، البدء فى برنامج الإصلاح الاقتصادى والاتفاق مع صندوق النقد الدولى على تنفيذ برنامج لمدة ثلاث سنوات مقابل حصول مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار. وتحمل المواطن المصرى هذه الفاتورة ووجه الرئيس عبدالفتاح السيسى الشكر فى أكثر من مناسبة للمواطنين الذين تحملوا من أجل بلدهم وبالفعل نفذت مصر الاتفاق بنجاح وأشادت بذلك المؤسسات الاقتصادية الدولية، وطالبت الدول الأخرى باتخاذ مصر كنموذج لتنفيذ برامجها للإصلاح الاقتصادى، وكان هذا النجاح متمثلا فى عناصر الاقتصاد الكلى وأبرزها التحكم فى عجز الموازنة العامة ورفع معدلات النمو، لكن ذلك جاء على حساب حجم الدين العام سواء الداخلى أو الخارجى حيث ارتفع بنسبة ضخمة. ووفقا لآخر مؤشرات تراجع التضخم العام إلى 7.5% مقارنة ب35% كأعلى نسبة وصل إليها فى يوليو 2017، فيما وصل صافى الاحتياطى النقدى إلى أكثر من 45 مليار دولار فى نهاية سبتمبر الماضى، كما حقق الاقتصاد معدل نمو فى الناتج المحلى الإجمالى ب5.6% فى العام المالى 2018/2019، وانخفضت نسبة البطالة إلى 7.5% خلال الربع الثانى من العام الحالى، فضلا عن استهداف عجزا فى الميزانية قدره 7.2% فى السنة المالية الحالية، انخفاضا من 8.2% فى 2018-2019. فى حين سجل إجمالى الدين العام المحلى 4.205 تريليون جنيه بنهاية مارس الماضى مقابل 4.108 تريليون جنيه فى نهاية 2018، وبلغ الدين الخارجى 106 مليارات دولار بنهاية مارس الماضى، مقابل نحو 88 مليار دولار بالفترة المقارنة من العام الماضى، وفقا للبنك المركزى المصرى. وقد شهدت أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الجنيه المصرى وأبرزها الدولار انخفاضات متتالية خلال العام الحالى حيث انخفض سعر الدولار إلى 16.23 قرشا مقارنة ب18 جنيها عقب تعويم الجنيه فى 2016، كما أصبح الدولار الجمركى مساويا فى السعر للدولار فى البنوك بعدما كان يتم إعلان سعره شهريا، وبذلك أصبح السعر واحدا. «الإدريسى»: الممارسات الاحتكارية السبب الرئيسى فى ارتفاع الأسعار فى هذا السياق، قال الدكتور على الإدريسى، نائب المدير التنفيذى للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية، إن السوق المصرى سوق حر يعتمد على قوى العرض والطلب والمنافسة. وأضاف الإدريسى «لكن المشكلة التى تؤثر على السوق وتجعل الأسعار غالبا فى ارتفاع بدلا من الارتفاع والانخفاض، هى بعض الممارسات الاحتكارية الموجودة فى السوق والتى تؤثر فى أسعار كثير من السلع وهذه مشكلة أساسية يعانى منها الاقتصاد المصرى». وأوضح «الإدريسى»، أن التغيرات الشديدة فى الأسعار الخاصة بالدولار والعملات الأجنبية والقرارات الاقتصادية المختلفة كلها عوامل تؤثر على أسعار السلع فى السوق وخاصة بعد تعويم الجنيه فى 2016. «المواطن يتخيل دائما أن نتيجة أى قرار اقتصادى تكون فورية وخاصة عند انخفاض أسعار صرف العملات الأجنبية أو انخفاض البنزين وهذا خطأ، لأن هناك دورة إنتاج ملتزم بها المستثمر، ولكن فى حالة ارتفاع أسعار السلع مباشرة عقب ارتفاع سعر العملات الأجنبية أو البنزين فإن ذلك يكون بسبب أن الارتفاع فى هذا الحالة فى مصلحة التاجر الذى يستغل الموقف لزيادة أرباحه والتقليل من خسائره»، بحسب الدكتور على الإدريسى. وأشار إلى أن عملية تخفيض الأسعار تستغرق وقتا تدريجيا وتعتمد على المنافسة فى السوق، وهو ما يغيب عن الاقتصاد المصرى بسبب الممارسات الاحتكارية فى بعض السلع، وأبرز مثال على ذلك شركات الحديد والأسمنت التى تتفق فيما بينها على تخفيض الأسعار فى وقت ما ورفعها فى وقت آخر حسب أهوائهم، وهو ما يؤثر بشكل واضح على الأسعار فى السوق. وأوضح أن اعتماد المصانع على استيراد المكونات الأساسية من الخارج، سبب مؤثر فى رفع الأسعار كثيرا لأنها تستورد بالعملة الصعبة. ولحل هذه المشكلة بدأت الدولة تتدخل فى هذا الأمر من خلال إنتاج السلع الأساسية وتوزيعها فى الأسواق، لضبط الأسعار وهو ما نراه فى السلع الغذائية بشكل خاص كاللحوم والدواجن والخضراوات، وفقا لنائب المدير التنفيذى للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية. وحول إمكانية تحديد الدولة لهوامش ربح المستثمرين، قال أن هوامش الربح لها مجموعة من الضوابط التى تعتمد عليها الدول المتقدمة حسب الصناعة ونوع السلعة التى يقدمها المستثمر للجمهور، لكننا فى مصر لا تستطيع الحكومة إجبار المستثمر على تحديد هامش الربح، لأن معظم احتياجاتنا نستوردها من الخارج وهذا الأمر يُصعب موقف الحكومة، لكن عندما تكون معظم احتياجاتنا يتم إنتاجها داخل الدولة سيكون من السهل على الحكومة وضع سياسات تسعير واضحة يلتزم بها الجميع لأنها فى هذه الحالة تعلم تكلفة كل منتج بالضبط، إنما الاستيراد من الصعب عليها معرفة تكلفة كل منتج، وبالتالى تترك الأمر للتاجر لتحديد السعر ومن هنا نجد الأسعار مرتفعة ومختلفة فى الأسواق. ولفت «الإدريسى»، إلى أن اختلاف التكلفة من مكان لآخر يُصعب أيضاً من فرص تحديد الحكومة لهوامش الربح نتيجة عوامل مختلفة أبرزها تكلفة النقل، مؤكدا أن التسعيرة الجبرية كانت موجودة فى الماضى لأن الدولة هى التى كانت تنتج احتياجاتها. وتابع «لكن من خلال إحكام الأجهزة الحكومية رقابتها على السوق وضبط الممارسات الاحتكارية وتفعيل مفهوم المنافسة من الممكن أن نضبط الأسعار ولا نترك الفرصة للتجار فى رفعها كما يشاءون»، موضحا أن بيع التجار للسلعة الواحدة بسعرين مختلفين أحد أبرز الظواهر السلبية فى السوق نتيجة غياب الرقابة، مدللا على ذلك بالمياه أو السجائر حيث نجد تاجرا يبيعها بسعر وآخر بجواره يبيعها بسعر آخر. ****** أستاذ اقتصاد: غياب الرقابة ودورة الإنتاج فى المصانع أبرز أسباب ارتفاع الأسعار وقال صلاح الدين فهمى، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، أن السوق المصرى حر منظم، ويتبع نظام العرض والطلب فى التسعير إلا السلع الضرورية التى تتدخل فيها الدولة ليتم تحديدها إداريا مثل البنزين والكهرباء وغيرهما من السلع. وأضاف فهمى، أن السبب فى عدم ارتفاع وانخفاض أسعار السلع بشكل طبيعى، هو غياب الرقابة على الأسواق ودورة الإنتاج فى المصانع التى تتأثر بأسعار صرف العملات الأجنبية التى تستورد بها المكونات من الخارج. و اعترف «صلاح»: «الدولة لا تستطيع تحديد هوامش أرباح المستثمرين لأن هذا التحديد يعنى تدخلا فى السعر والدولة لا تريد ذلك وتترك الأمر دائما للعرض والطلب». وحول الإجراءات التى يمكن اتخاذها لخفض الأسعار والتحكم فيها، قال إنه يجب منع تداول السلع بين الوسطاء واخترال مراحل البيع لمرحلتين فقط، تتمثل فى انتقال السلعة من المنتج إلى التاجر ومن التاجر إلى المستهلك مباشرة، وأن نمنع المراحل الأخرى التى يريد كل شخص فيها الحصول على أرباح، وبالتالى يرتفع السعر النهائى، فمثلا السلع الغذائية مثل الخضراوات يكون سعر الكيلو فى الأرض الزراعية جنيهين ثم ينتقل بين الوسطاء فى أكثر من مرحلة ليصل إلى 7 و8 جنيهات للمستهلك بدلا من أن يكون 4 جنيهات إذا منعنا الوسطاء، تنتهى الأزمة متابعا، «هذا الأمر بدأت فى تنفيذه الحكومة من خلال منافذ بيع القوات المسلحة والشرطة التى تبيع المنتجات بأسعار مخفضة عن تجار القطاع الخاص». خبير اقتصادى: تحديد هوامش الربح يطرد المستثمرين من السوق فيما قال مصطفى بدرة، أستاذ التمويل والاستثمار، السوق المصرى يعتبر خليطا بين عدد من المدارس الاقتصادية. وأضاف «بدرة»، «فالسوق ليس سوقا حرا بالشكل الكامل، ولو كنا سوقا حرا لكانت الأسعار حاليا فى وضع مختلف جدا ومرتفعة، ولكان تعويم العملة المحلية كاملا ولا يتم التحكم فيها من وقت لآخر من جانب المؤسسات الحكومية». ولفت أستاذ التمويل والاستثمار، إلى أنه بعد عام 2011 تراجعنا بشكل كبير فى مختلف القطاعات الاقتصادية، وكان لابد من تصحيح الوضع بطريقتين إما بشكل بسيط أو بشكل جذرى تكلفته عالية جدا يتحملها المواطن البسيط، وهذا ما حدث بعد تعويم الجنيه فى 2016. «لا يوجد تحديد لهامش الربح فى أى دولة اقتصادها حر والحكومة لا تستطيع التدخل فى هذا الأمر إلا بشكل محدود جدا فى بعض الأوقات، فنحن لا نستطيع فرض هامش ربح لأن ذلك القرار سيؤدى إلى هروب المستثمرين الأجانب والمحليين من السوق»، بحسب الدكتور مصطفى بدرة. وأوضح أن ما تستطيع الحكومة فعله هو زيادة عدد الشركات والتصنيع والإنتاج حتى يزيد المعروض من السلع وتنخفض الأسعار، إضافة إلى إحكام رقابة الأسواق ومنع الاحتكار، وأن يكون لدى الحكومة اليد العليا فى اتخاذ القرارات السريعة المتجاوبة مع المجتمع المصرى».